فن السؤال

أ.د. محمّد عبد الرّحيم سلطان العلماء

هذه إضاءة لواحد من الدروس العميقة التي يشتمل عليها كتاب «علمتني الحياة» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله.
والذي جاء بعنوان «السؤال»، حيث أبدع فيه سموه في الحديث عن فلسفة السؤال وأهميته القصوى في صنع المعرفة وتسديد القرار، وهو حديث نابع من الخبرة العميقة والتجارب الثرية التي يتمتع بها سموه عبر مسيرة العمل الطويلة في بناء الوطن والإنسان.

حيث يبدع في استلهام الدروس من التجارب الخاصة ليعالج من خلالها مشكلة عامة تكون درساً بليغ التأثير والإلهام للأجيال المتعطشة إلى هذا النوع من التجارب الفريدة التي تصقل الشخصية وتثري الوعي، وتبني جسر التواصل بين أجيال الحكم والسياسة عبر المسيرة التنموية لهذا الوطن الطيب المعطاء.

ينطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من نقطة تاريخية محددة في بناء هذا الدرس، حين يعود بذاكرته إلى بداية تأسيس طيران الإمارات حين تم طرح السؤال التالي: «كيف يمكن أن تنجح الشركة خلال السنوات القادمة؟» حيث لاحظ سموه أن هذه الصياغة للسؤال ليست إيجابية وتفتقر إلى العمق والذكاء، وطلب منهم إعادة صياغة السؤال ليكون على النحو التالي: «كيف يمكن أن تسهم الشركة في تعزيز نجاح دبي؟» ليوضح بعد ذلك الفرق بين الصياغتين من خلال الفرق بين الإجابتين.

حيث يقول سموه: إن الإجابة عن السؤال الأول ستركز على زيادة عدد الوجهات، وتقليل المنافسين عبر الحماية، وزيادة حصة الشركة ضمن مطار دبي، وغير ذلك، في حين أن الإجابة على السؤال الثاني ستكون حول إسهام الشركة في نجاح الإمارة من خلال استقطاب شركات طيران جديدة لمطار دبي عبر تغيير سياسات الحكومة، واستخدام الشركة للتسويق السياحي لإمارة دبي في الوجهات الجديدة، وتعزيز الحركة الاقتصادية للإمارة عبر دعوة المسافرين الدوليين لدخول الإمارة وتجربة مرافقها، وغير ذلك من الإجابات الذكية التي تخدم الإمارة وليس الشركة وحدها.

تأسيساً على هذا التفريق الدقيق بين الصياغتين للسؤال ينطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى تفحص المحتوى الصحيح للسؤال الصحيح حين يفتتح شرحه لهذا التفريق بقوله: «السؤال الصحيح هو الذي يصنع إطار التفكير الذي تريده في فريق عملك، السؤال الصحيح يحدد الأولويات، ويوجه الانتباه، ويحفز الفهم العميق لما نريد وكيف نصل»، ليعمق بهذا الكلام الفهم الصحيح لصياغة السؤال الذي يغير مسار التفكير.
ويفتح أبواب البصيرة أمام خيارات لم يكن لها أن تبرز للعيان من خلال سؤال خاطئ أو قاصر، ولا يكتفي سموه بهذه الدائرة الضيقة للسؤال بل يمتد بذلك إلى أسئلة القادة التي يترتب عليها نتائج ليست سهلة بل تتعلق بالوطن والشعب، ولذلك يفرق بين نمطين من القيادة باختلاف ما يطرحونه من الأسئلة حين يقول: «هناك قائد يسأل: لماذا لم تنجحوا في هذه السياسة؟

وكأنه يفتح باب الاتهام والمساءلة واللوم، وقائد آخر يسأل: أين الخلل في هذه السياسة؟ وكيف يمكن تجنبه في المستقبل؟ وكأنه يفتح باب التحسين والتطوير»، ليكون هذا التفريق الدقيق بين نمطي الأسئلة هو الذي يساعدنا في الحكم على ذكاء القائد وحكمته من أسئلته التي يطرحها.

وربما خطر في البال أن صياغة السؤال هي نوع من الذكاء الفلسفي للوصول إلى درجة من درجات الحكمة، وهذا صحيح، لكن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يضيف بعداً آخر لهذا الأمر حين يقول:
«يقولون: السؤال هو بداية الحكمة، وأقول: السؤال هو مفتاح التنمية أيضاً»، ثم يعزز هذه الفكرة العملية بإرشاد القادة إلى التفريق بين محتوى الأسئلة، ويصوغ مثالاً عملياً حين يقول:

«لا تسأل كيف يمكن أن أنافس المدينة الفلانية أو الشركة الفلانية وأتفوق عليها، لأن ذلك يضعك في أفق ضيق، ويضع لك إطار عمل غير صحيح»، ثم يطرح سموه الصياغة الصحيحة للسؤال على النحو التالي: «السؤال: كيف يمكن أن أستثمر مواردي وإمكاناتي لأكون متميزاً ومتفوقاً ومتفرداً على المستوى العالمي؟»، وببصيرة القائد الفذ يوضح سموه الفرق الناشئ عن الفرق بين الصياغتين حين يقول:

«هنا لا يكون الهدف هزيمة منافس، وبناء تحالفات ضده، واتخاذ قرارات لسحب البساط منه، بل يكون الهدف التكامل مع الجميع والتعاون مع الكل، لاستغلال المميزات والموارد التي أملكها لتحقيق أقصى الأهداف والطموحات».

وحين تسلم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد رئاسة الحكومة الاتحادية للدولة، كانت الأسئلة المركزية تدور حول تحسين الخدمات وإغلاق الفجوات، وهي أسئلة تقليدية مكررة لا يعول عليها سموه، ولذلك طرح سؤالاً مركزياً ومختلفاً وعميقاً حين خاطب وزراءه قائلاً: «كيف يمكن أن تكون كل وزارة هي الأولى عالمياً في أحد المؤشرات الخاصة بعملها؟» .
وهنا وبحسب كلام سموه «تغيرت النظرة، واتسع الأفق، وارتفع السقف، وزاد الإحساس بالتحدي، فقط بسبب سؤال مختلف»، لتكون النتيجة الملموسة هي تصدر الدولة في أكثر من 260 مؤشراً تنموياً حسب التقارير العالمية، وقد سبق لنا الوقوف عند الفهم العميق لسموه لمفهوم المؤشرات، وأنها شكل من أشكال الدفاع عن وجودنا الحضاري، ليعود صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى التأكيد على قيمة السؤال الصحيح حين يقول:

«لا يوجد أقوى من سؤال صحيح في الوقت المناسب». ويتسع أفق الرؤية لدى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حين يتحدث عن أهمية السؤال في نشأة العلوم والفلسفات، وأن هذه الأسئلة الصحيحة الذكية هي مفاتيح التنمية للعقل البشري، وهو ما عبر عنه بقوله: «علوم بأكملها قامت على سؤال واحد، كالفلسفة التي قامت على «لماذا؟» .

والفيزياء التي قامت على «ما هي قوانين الطبيعة؟» وعلم النفس الذي حاول أن يجيب عن السؤال: كيف نفهم النفس البشرية ؟» ليتغير فهمنا للكون من خلال السؤال الشهير عن سقوط التفاحة لدى إسحاق نيوتن، ما أدى إلى ثورة علمية ما زلنا ندور في إطار أسئلتها الجوهرية العميقة بعد اكتشاف قانون الجاذبية الذي يفسر لنا أدق تفاصيل هذا الكون البديع.

وبخبرة القائد الحكيم يربط صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بين السؤال والقيادة، فيقرر أن القائد ليس هو الذي يستعجل الإجابة، بل القائد الحقيقي هو الذي يبحث عن السؤال الصحيح، لأن الوصول للسؤال الصحيح هو نصف الإجابة، والسؤال الصحيح في منظور سموه هو أفضل أداة للتطوير، وأفضل وسيلة لغرس الثقة في الفريق، وأسرع وسيلة للتعلم والفهم العميق.

إن جودة الأسئلة هي الإشارة الأولى الدالة على ذكاء الإنسان، وهو ما جزم به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حين قال: «يمكنك أن تحكم على ذكاء الإنسان من جودة أسئلته، وعلى حكمته من عدم تسرعه في الإجابة، لأن العقول الكبرى تتمعن في الأسئلة.
والعقول الصغيرة تندفع لتقديم إجابات سطحية»، ليختم سموه هذا الكلام الثمين بالدرس العميق الذي تعلمه من هذه الحياة بخصوص صحة الأسئلة وذكائها حين قال: «علمتني الحياة أن الحكمة تتطلب تساؤلات أكثر من إجابات، لأن التساؤلات هي بداية الفضول الذي يقود للمعرفة، والمعرفة هي مفتاح القوة».



شريط الأخبار