سؤال نصف المليار

علي عبيد الهاملي

حوارات كثيرة ومساجلات عديدة وأخبار متفرقة، تابعناها خلال الفترة الأخيرة على مواقع الاتصال الاجتماعي، إضافة إلى مقالات قرأناها في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، تطرح موضوع جامعة الدول العربية، وضرورة إحداث تغيير ملموس ينسجم مع الواقع الجديد الذي فرضته الأحداث، ومع الزمن الذي تغيّر، وتغيّرت معه مراكز القرار، وعواصم القرار، وقواعد القرار، وحيثيات اتخاذ القرار.
ما تم طرحه في هذه الحوارات والمساجلات والمقالات من أفكار لم يكن تقليدياً مقارنةً بالطرح الذي استمعنا إليه كثيراً خلال السنوات الماضية، فهو لا يتعلق بإعادة النظر في دور الجامعة أو إحياء هذا الدور فقط، وإنما يدعو إلى تغييرٍ جوهريٍ فيها، وتداول المنصب الأعلى في أمانتها العامة، وإتاحته للدول التي تقود مسيرة الأمة العربية الآن، وتحتل مكان الصدارة من حيث القوة السياسية والاقتصادية والتأثير والمكانة الدولية، وهي التي كان يُطلَق عليها سابقاً دول الأطراف، مقابل الدول التي كان يطلق عليها دول المركز، والتي احتكرت المقر والمنصب وأغلب الوظائف منذ تأسيس الجامعة.
والحديث الذي يدور يتعدى هذه الموضوعات إلى موضوعات تتعلق بالهدر الذي يحصل في أموال الجامعة، والصرف الكبير على مكاتبها الخارجية، مقابل النتائج المتواضعة التي تحققت من وجودها، والجدوى التي عادت على الأمة والشعوب العربية منها.

ربما يبدو هذا الطرح للجيل الذي شهد نشأة وصعود الجامعة العربية، وحضر أو تابع مؤتمرات وقرارات القمم العربية في زمن ذلك الصعود، غريباً من الصعب استيعابه، لكنه في نظر الجيل الذي لم ير ولم يعش سوى زمن نكوص الجامعة العربية، وتراجع دورها، وضعف تمثيل وقرارات قممها، طرحٌ مقبولٌ ومنطقيٌ جداً، يناسب دور الجامعة وتأثيرها وثقلها في هذا الزمن، لأن جيل هذا الزمن لا تربطه علاقة عاطفية بجامعة الماضي وشخوصها وأدوارها.
ورغم ذلك، فإن الذين يدعون إلى هذا التغيير يرون أنه في هذا الزمن الذي تتغير فيه خرائط السياسة، من الأفضل أن تظل الجامعة العربية قائمة كمرآة لضمير عربي جمعي، يبحث عن ذاته وعن الأمل وسط ركام الخيبات المتوالية.
فعندما تأسست جامعة الدول العربية عام 1945م، كان العالم يخرج من أتون حرب عالمية، وكانت العواصم العربية تنفض عنها غبار الاستعمار.

اجتمع قادة سبع دول عربية يومها على حلمٍ، عبّرت عنه الوثيقة التأسيسية.

لكن ما بين الحلم والواقع، انفتحت فجوةٌ كبيرةٌ، لم يكن من السهل ردمها.

فقد كان في مخيال المؤسسين حلمٌ بوطنٍ عربي كبير، يجمع ولا يفرّق، يصون ولا يهدر، يواجه التحديات برؤية مشتركة، لا بتكتيكات فردية متضاربة.

لكن الواقع كان أقل شاعرية، فالاختلافات السياسية، والتجاذبات الإقليمية، ومصالح الدول الأعضاء المتباينة، والأحلام الشخصية لبعض الرؤساء العرب وقتها، جعلت من الجامعة العربية منبراً تُلقى فيه الكلمات أكثر مما تُنفذ فيه القرارات.

ومع هذا فإن الحديث عن تلاشي دور الجامعة أو انتهاء صلاحيتها ليس عقلانيّاً.
إذ إن وجود كيان عربي جامع، مهما كانت عثراته، أفضل من الغياب الكامل لأي مؤسسة تعبّر عن الحد الأدنى من التوافق العربي.. فالمنطقة العربية تواجه اليوم تحديات وجودية؛ تبدأ من الصراعات المسلحة وتدخلات القوى الكبرى، ولا تنتهي عند تهديدات الأمن الغذائي، وشحّ المياه، والبطالة، والتغير المناخي.

ملفات لا تعترف بالحدود الجغرافية، ولا يمكن لأي دولة مواجهتها منفردة.

ليس في هذا تجميل لواقع، ولا غضّ للطرف عن الخلل، ولكن فيه إيمان بأن العمل العربي المشترك ليس ترفاً، بل ضرورة.

ففي عالم التكتلات الكبرى، لم يعد هناك مكانٌ للكيانات الهشة الصغيرة.

البعض يرى أن بقاء الجامعة العربية مشروط بتجديد دورها، وتجديد دور الجامعة يتطلب تجديد أدواتها وآليات عملها.
فالعالم اليوم لا يُدار بالبيانات الإنشائية، وإنما بالخطط المحكمة، والمواقف الواضحة، والقدرة على اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ، ووجود إرادة سياسية حقيقية لدى الدول الأعضاء.

فإحداث تغييرٍ جذريٍ في جامعة الدول العربية أصبح أمراً ضرورياً، حتى لو بدا غير مألوفٍ لدى جيل لم يعتد سوى المألوف. فهل نرى هذا قريباً؟

سؤالٌ مهمٌ، ينتظر الجميع إجابته. إنه سؤال نصف المليار من العرب الذين يراقبون رياح التغيير التي تهب على المنطقة، ويتطلعون إلى الأفضل.



شريط الأخبار