عن إنكار العمران الفلسطيني

محمد خالد الأزعر

منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث الإطلالة الأولى لتطبيق مشروع تهجير يهود العالم إلى فلسطين وتوطينهم فيها، تمهيداً لتحويلها لدولة خالصة لهم، وصولاً إلى يومنا هذا، ظل «إنكار» وجود الشعب الفلسطيني بعامة، ومحاولة اجتثاث مختلف تعبيرات ومعالم هويته، السياسية منها بالذات، أحد أهم ثوابت هذا المشروع.
بدرجات متفاوتة، بين الوضوح إلى درك التبجح وبين الاستعماء والتخفي وراء زخرف القول، لازم هذا الثابت أحلام ومخططات كل القيادات التي سهرت على تكوين إسرائيل وتكريسها، نظرياً وعملياً، من هرتزل إلى نتانياهو.
حين أطلق عراب الصهيونية الأكبر هرتزل، الدعوة لمشروعه، انبرى المفكر والفيلسوف اليهودي أشر جينزبرج (الشهير بآحاد هاعام) لتفنيد هذه الدعوة، معتبراً أنه لا ينبغي أن تتخطى الجوانب الدينية إلى الأبعاد السياسية..
وأعلن، على إثر زيارة ميدانية قام بها إلى فلسطين عام 1891، بأن «هذه البلاد وطن قومي لسكانها الموجودين فيها لأجيال كثيرة، ولذا فإن الساعين إلى استيطانها، يمكنهم في الحد الأقصى تحويلها إلى كيان ثنائي القومية».

نعرف أن هرتزل لم يأخذ بشهادة جينزبرج، وتجاهل مدرسته الموسومة بـ«الصهيونية الروحية»، ومضى إلى غايته بإصرار، بل وعززها بتأليف كتابيه «الدولة اليهودية ـ 1896» و«الأرض القديمة الجديدة ـ 1902»..
وأشاع من خلالهما فكرة أن فلسطين مساحة خالية جرداء، تتحرق لتحويلها بسواعد اليهود إلى أرض للبن والعسل، منكراً وجود عمرانها الفلسطيني الأصيل..

وكذلك فعل خليفته ماكس نورداو، حتى أنه لم يأبه بتقرير مندوبين أرسلهما لاستطلاع أوضاع فلسطين على الطبيعة، وكانت خلاصته بالرمز «العروس مستوفية لكل الشروط، لكنها متزوجة فعلاً»!..

لاحقاً، تفشت هذه العبارة بين يدي معظم أدبيات العاطفين على القضية الفلسطينية، وأصبحت دليلاً على أن فلسطين عامرة بأهلها وبطلان مقولة إنها «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
المدهش أن كل الحقائق الدامغة، الموصولة بوجود الفلسطينيين ومعاينة مفردات حيواتهم، قبل قيام إسرائيل وبعده، لم تصرف الداعين إلى تهويد فلسطين عن لوك هذه المقولة الزائفة.
فبعد خمسين عاماً من زمن هرتزل ونورداو وبطانتيهما، ذهبت جولدا مئير رئيسة وزراء إسرائيل في يونيو 1969 إلى أنه «ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني».

واليوم، وبعد أكثر من خمسين سنة أخرى، واعتراف 138 دولة وأعلى رموز التنظيم والقانون الدوليين، بحق الفلسطينيين في تقرير المصير والدولة، وما تعنيه موادعات أوسلو وتوابعها من تمهيد للاعتراف بهذا الحق، من جانب قطاعات إسرائيلية جرى إسكاتها سريعاً، نجد خلفاء مئير، من شاكلة نتانياهو وبن غفير وسموتريتش وسواهم كثيرين، يرددون المقولة ذاتها.. أمأ بنصها كما هو وإما باعتماد محتواها ودلالاتها عملياً.

السيرة المنكودة لأطوار الصراع على أرض فلسطين وجوارها، تؤكد أنه ما كان لهذه المقولة، المتكئة على مبدأ إنكار الحقائق الفلسطينية، أن تمر بحمولتها وجرائرها شديدة الخطورة، بمعزل عن تلقيها وأصحابها الدعم اللامقطوع واللاممنوع من القوى الدولية الغربية، التي توالت على قمة النظام الدولي خلال المئة سنة الأخيرة.
ففي تصريحه الشهير حول فلسطين عام 1917، أنكر بلفور وزير خارجية بريطانيا، العظمى وقتذاك، أي استحقاقات قومية سياسية للفلسطينيين، واكتفى بالإشارة إليهم بحسبهم «طوائف مدنية ودينية غير يهودية مقيمة في البلاد».

وكسياسي متمرس مخضرم، كان الرجل يعرف مؤدى كل كلمة في تصريحه، مدركاً للفارق بين تنسيب مفهوم القومية لليهود، وتعريف غيرهم بأنهم مجرد طوائف أخرى «مقيمة». وبالمناسبة ما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تتوسل بهذا المصطلح في وصف فلسطينيي القدس بخاصة، فهم عندها «مقيمون لا مواطنون»!

راهناً، يصح وضع رؤية الرئيس الأمريكي ترامب للفلسطينيين في مرتبة مساوية، إن لم تكن أدنى، من تلك التي تبناها بلفور من قبل.. فبلفور كان ابن عصره وحقبته وثقافتها الاستعمارية الفجة.
بينما يتنكر ترامب لأحقية الفلسطينيين في التحرر والاستقلال والدولة، متجاوزاً لفرضية زوال تراث تلك الحقبة السوداء عموماً من جهة، ومتخطياً للتراكم والتبلور الساطع الذي يخرق العين لأطر الاجتماع السياسي للفلسطينيين من جهة أخرى.

وإذا كان وعد بلفور قد اعتبر الفلسطينيين مقيمين يجب «مراعاة حقوقهم المدنية والدينية»، فإن ترامب لا يراهم فيما يبدو سوى صفقة عقارية، يمكن تهجيرهم ونقلهم كرهاً أو طوعاً إلى كيانات إقليمية أو دولية أخرى.

ورغم المسافة الزمنية والموضوعية بين عهديهما، توافق بلفور وترامب، والتقيا مع رؤوس التطرف الصهيوإسرائيلي، على إنكار الكينونة السياسية للشعب الفلسطيني.
وإذا كان عهد بلفور الاستعماري، قد أفضى إلى تدمير حياة هذا الشعب وتهجير غالبيته جراء جولتي الصراع الشهيرتين عامي 1948 /1949 و1967، وتحويل قضيته إلى كرة نار، حار الخلق أجمعين في إطفاء لهيبها داخل فلسطين ومحيطها الإقليمي..

فإن عهد ترامب ومداخلات دولته، ونفوذها، الطليق تقريباً، في التعامل مع جولة الصراع المتفاعلة حالياً، ينذر بأيام صعبة.



شريط الأخبار