زمن الحروب المنقولة على الهواء

علي عبيد الهاملي
من الطبيعي أن نشاهد مباراة كرة قدم على الهواء مباشرة ونستمتع بها ولكن أن نشاهد معركة حربية على الهواء فهذه فكرة صعبة القبول إنسانياً

بعيداً عن التحليلات السياسية والعسكرية التي نتابعها على القنوات الفضائية وهي تغطي الحرب الإسرائيلية الإيرانية الدائرة منذ أيام، تلفت نظري التغطية التلفزيونية المباشرة لهذه الحرب، والتي يمكن تصنيفها ضمن أفلام الحركة والإثارة التي نشاهدها على شاشة السينما، مع فارق أن ما نشاهده على شاشة السينما ليست أكثر من تمثيل وخدع سينمائية متطورة، وذكاء اصطناعي في الفترة الأخيرة، في حين أن ما نشاهده على شاشات القنوات الإخبارية حقائق تسيل فيها دماء، وتزهق أرواح، وتدمر مدن وقرى ومنشآت ومصانع ومستشفيات ومدارس ومرافق كثيرة، بذلت الدول أموالاً طائلة، وقضى الناس أعواماً كثيرة كي يروها قائمة على الأرض، ثم تأتي قذيفة أو طائرة أو صاروخ أو مسيرة لتسويها بالأرض، وتصبح كأن لم تكن قائمة.
مضى ذلك الزمن الذي كان الناس فيه يتابعون أخبار الحروب من خلال الصحف.
كانت الأخبار تصل الناس كما تصل رسائل البحر في زجاجات مغلقة، لا يدري أحد متى أُرسِلت، ولا كيف كُتِبت، ولا ما إذا كانت قد وصلت في وقتها أم متأخرة زمناً لا نعرف مقداره.

ثم أتى وقتٌ كان الناس فيه يستمعون إلى أخبار الحروب من خلال البيانات العسكرية التي تبثها الإذاعات، تسبقها تلك الموسيقى الحماسية المعتادة لتزفّ إلى المستمعين نصراً مؤزراً، حتى لو كانت الجيوش تائهة في الصحراء تجرجر أذيال الهزيمة.

حدث هذا في حروب كثيرة، كانت البيانات العسكرية تنقل للجماهير من خلال الإذاعات انتصاراتٍ كبرى، قبل أن تفيق الشعوب على هزائم تُطلَق عليها أسماء أخرى.

على مدى عقود من الزمن، ظلت متابعة الحروب تتم من خلال الإذاعات والصحف، ثم دخل التلفزيون على الخط، وإن بشكل غير مباشر.
حدث هذا في مناطق كثيرة من العالم، حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين.

ولكن ما أن أطلت علينا التسعينيات حتى حدث شيء لم يكن متوقعاً، إذ بينما كان العالم كله ينتظر بدء حرب تحرير الكويت من احتلال نظام صدام حسين، بعد أن فشلت كل الجهود التي بذلت من أجل إخراج القوات العراقية من الكويت، إذا بقناة CNN الأمريكية تأتي لتبدأ عهداً جديداً في تغطية الحروب خلال تغطيتها لعملية «عاصفة الصحراء» عام 1991م.

وبهذا أصبحت أول قناة تلفزيونية تقوم بنقل حروب المنطقة على الهواء مباشرةً، وبشكل مكثفٍ، بدءاً من حرب الخليج الثانية.

بثت قناة CNN الإخبارية بشكلٍ مباشرٍ من بغداد عند بدء الهجوم الأمريكي على العراق لتحرير الكويت.
غطّى مراسلوها، الذين كان أبرزهم بيتر آرنيت وبيرنارد شو، القصف الجوي الأمريكي الأول على العاصمة العراقية بثاً حياً من «فندق الرشيد» ببغداد.

هذا الحدث اعتُبر نقطة تحوّلٍ كبرى في الإعلام الدولي، بدأ منه ما عرف لاحقاً باسم «الحروب المنقولة تلفزيونياً» أو «حرب التلفزيون المباشر».

وحين غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003م، لم نكن نقرأ أو نسمع عن الحرب.

كنا نراها عبر الشاشات كما لم يرها أهل بغداد أنفسهم، فقد كان القمر الصناعي أسرع من السيارة العسكرية، وكان المراسل التلفزيوني أقرب إلى غرفة نوم المشاهد من أقرب جندي إلى موقع الحدث.

منذ ذلك الوقت، أصبحت القنوات الإخبارية تتسابق لتوفير بث مباشر من ساحات المعارك، وهو ما شكّل تحولاً في علاقة الناس بالحروب، التي أصبحت تُشاهد لحظة بلحظة بدلاً من قراءتها بعد أيام في الصحف، أو سماع أخبارها من خلال الإذاعة، ثم رؤية لقطات قصيرة مصورة منها بعد ذلك على شاشات التلفزيون خلال نشرات الأخبار، وفي قاعات السينما قبل عرض الأفلام أحياناً.
من الطبيعي أن نشاهد مباراة كرة قدم على الهواء مباشرة ونستمتع بها، ولكن أن نشاهد معركة حربية على الهواء مباشرة ونستمتع بمشاهدتها فهذه فكرة تبدو غير معقولة وصعبة القبول إنسانياً، لأن حصاد الحروب في النهاية دماء وجثث وخراب ودمار، خاصة في ضوء ما وصلت إليه صناعة الأسلحة المتطورة في العقود الأخيرة من قدرة كبيرة على القتل والفتك والتدمير.
بعد كل هذه الحروب المنقولة على الهواء مباشرةً، أحسبنا بحاجة إلى هدوءٍ نسبي يعيد لنفوسنا توازنها الذي كادت تفقده، أو هي فقدته فعلاً، فالهدوء الحَذِر أكثر مدعاةً للقلق والتوتر.



شريط الأخبار