«إيكيجاي» الثقافة الإماراتية

د. موزة غباش

الأسبوع الماضي، رأيت فيديو للوالد، المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عرضه مكتب المؤسس في «يوم الشباب العالمي»، وكان يحمل بيده فنجان القهوة العربية، ويقول: «إن أي أمة بدون الأخلاق، وبدون حسن السلوك، وبدون العلم لا تستطيع أن تبني أجيالها والقيام بواجبها، وإنما حضارات الأمم بالعلم وحسن الخلق والشهامة ومعرفة الماضي والتطلع للحاضر والمستقبل».
أدهشني القدر، فقد كنت أقرأ في ذات الوقت كتاب «إيكيجاي: السر الياباني لعيش حياة طويلة وسعيدة»، للمؤلفين «هيكتور غارسيا» و«فرانسيسك ميرالس»، وفي هذا التزامن تولّدت في رأسي فكرة: ماذا لو نظرنا إلى مقولة الشيخ زايد من خلال عدسة «الإيكيجاي» الياباني؟ ماذا لو ابتكرنا مفهوماً إماراتياً موازياً، نسميه «إيكيجاي الثقافة الإماراتية»، أو «سرّ الدلة والقهوة: العيش بالهوية»؟

الإيكيجاي كلمة يابانية تعني «السبب للعيش». هو ذلك المعنى الذي يمنح الفرد دافعه للاستيقاظ صباحاً، والاستمرار بنشاط وحماسة. يصفه المؤلفان بـ«سعادة الانشغال الدائم»، أي الامتلاء بعمل ومغزى يجعل الحياة أكثر اتساقاً مع النفس والمجتمع.
وجذور الفكرة تتجلى في قرى «أوكيناوا»، حيث يعيش أطول الناس عمراً في العالم. سكان هذه الجزر يحتفظون بنشاط يومي، ويمارسون عادات غذائية متوازنة.

الكتاب يلخص معادلة «الإيكيجاي» في أربع دوائر متقاطعة: (ما تحبه. ما تجيده. ما يحتاجه العالم. وما يعود عليك بفائدة. وعند نقطة الالتقاء، يتولد الـ «إيكيجايك الخاص»، المعنى الذي يحوّل الحياة إلى رحلة متدفقة بالعطاء).
لو أسقطنا هذه الفلسفة على الإمارات، لوجدنا أن التراث يقدّم أركان إيكيجاي محلية، تستمد روحها من البحر والصحراء والمجلس والقهوة، الشغف: ما نحبه، فالإماراتي كان وما زال عاشقاً للصحراء والبحر معاً.
في الصحراء، مارس الفروسية، نظم الشعر النبطي، وصاد بالصقور. في البحر، غاص للؤلؤ، بحثاً عن جمال مكنون في أعماق الخليج. هذا الشغف بالطبيعة والبيئة لم يكن تسلية، بل هوية راسخة.

والثانية (المهارة: ما نجيده، فمن السدو إلى صناعة القوارب، ومن الأهازيج البحرية إلى العيالة، تعلمنا من أجدادنا إجادة صنع الأشياء، والمهارة في القدرة على تحويل العمل إلى فن، والمهنة إلى حكاية.
كل موروث كان تمريناً على الصبر والإتقان، وأداة لتماسك الجماعة)، أما الثالثة فهي خدمة المجتمع، فالمجلس الإماراتي نموذج للحوار وحل الخلافات. القهوة رمز للكرم، والضيافة فعل يومي يؤكد أن الإنسان يعيش للآخر بقدر ما يعيش لنفسه.

هنا يصبح «الإيكيجاي الإماراتي» مشروعاً جماعياً، يربط الفرد بجماعته، ويمنحه سبباً أكبر من ذاته، وفي النهاية نتحدث عن العائد أي ما يضمن الاستمرارية، حيث كان اللؤلؤ هو العائد الأثمن، ثم أصبح النفط، واليوم تنوعت الموارد بين الاقتصاد والسياحة والثقافة.

ومع ذلك، يبقى العائد الأعمق هو المعنوي: استمرار الهوية، وخلق مستقبل متجذر في الماضي.

وإذا كانت اليابان وجدت في «الإيكيجاي» سر طول العمر، فإن الإمارات تجد في تراثها سر الحياة الكريمة، فكلا الشعبين واجه بيئة صعبة: اليابانيون مع الزلازل والكوارث الطبيعية، والإماراتيون مع قسوة الصحراء وشح الموارد.
ومع ذلك، صاغ الطرفان فلسفة حياة: اليابان عبر الإيكيجاي، والإمارات عبر قيم الأخلاق والعمل والهوية التي أكدّها الشيخ زايد.

حين نتأمل الإيكيجاي الياباني، نرى أنه يضع «المعنى» في قلب التجربة الإنسانية: المعنى الذي يولّد حافز الاستيقاظ كل صباح، ويجعل الإنسان ممتلئاً بطاقة الاستمرار رغم التحديات.
هذه الفلسفة تقابلها رؤية الشيخ زايد، الذي أكّد أن الأخلاق والعلم والشهامة هي اللبنات التي تبني الأمم وتصوغ مستقبلها.

فالمعنى عند اليابانيين فردي يتجسد في تقاطع الشغف والمهارة والغاية، بينما عند الشيخ زايد يتجلى في بناء مجتمع أخلاقي قادر على حمل أمانة التنمية والتاريخ.

ومع ذلك، يلتقيان في نقطة جوهرية: الإنسان لا يعيش لذاته وحده، بل يعيش لرسالة أوسع، للآخرين وللأجيال القادمة.

الفارق أن الإيكيجاي يضع الفرد مركزاً، والشيخ زايد يضع الأمة إطاراً، لكن كلاهما يسيران في اتجاه واحد: تحويل الحياة إلى فعل هادف ومثمر.

في أوكيناوا، يبقى الإنسان محاطاً بأصدقائه وجماعته حتى شيخوخته، وهذا ما يضمن له السعادة والعمر المديد.
وهذه الفكرة تشبه ما آمن به الشيخ زايد حين جعل المجلس مؤسسة يومية للحوار، واعتبر القهوة والضيافة رمزاً للكرم والربط بين الناس. الهوية اليابانية وجدت في «الإيكيجاي» خيطاً لربط الفرد بجماعته، والهوية الإماراتية وجدت في التراث والعادات و«السنع» سبيلاً لتوحيد الفرد بالمجتمع.

ومع ذلك فإن فكر الشيخ زايد، حسب وجهة نظري أكثر أصالة ورسوخاً وشمولية: فهو يربط نشوء وتطور الحضارة بالعلم وبالقيم (حسن الخلق والشهامة) وكذلك التعلق بالتراث (معرفة الماضي والتطلع للحاضر والمستقبل).



شريط الأخبار