د. محمد النغيمش
تعيش لندن أكبر حوادث سرقة هواتف في تاريخها، بل قدرت الإحصاءات أن ما دون نصف الهواتف المسروقة في القارة الأوروبية (40 %)، تقع في بريطانيا.
مازالت الشرطة تفعل كل ما في وسعها للوصول إلى المجرمين الذين تفننوا في كل أشكال خفة اليد والسرقة. ثم بدأ المشهد يتغير جذرياً عندما بدأ الناس ينشطون في الدور المجتمعي الرقابي، حيث سخّر المشاهير والمصورون عدسات كاميراتهم لتتبع النشالة في كل شوارع وأزقة عاصمة الضباب.
وتنافس الجميع في طرق رصد حرامية الهواتف والشنط، فمنهم من صار يلاحق النشالين بهتافات تفضحهم وتشعرهم بالخزي مثل: احذروا النشالين.. احذروا النشالين، ولا يتركونهم حتى يلحظهم الجميع.. مهما كان لدى الشرطة من دور فلن تتمكن من أن تلاحق الجميع بهذه الطريقة.. ما يهمني هو ماذا يمكن أن يحدث إذا صحت ضمائر الناس، وصار كل مواطن خفير.
الشرطة الإنجليزية التي تذكر الناس بألا يمسوا أي متهم حتى لا يكونوا تحت طائلة القانون، لاحظت تصرفات غير مسبوقة حينما وجدت الناس يمسكون النشالين ولا يلحقون بهم أي ضرر حتى تأتي قوات الشرطة وتعتقلهم.
الشاب البرازيلي، دييغو غالدينو، الذي يعمل سائق توصيل طلبات، سمحت له طبيعة وظيفته المتنقلة برؤية العديد من المجرمين، فدفعته غريزة المروءة إلى تركيب كاميرا صغيرة على صدره وصار ينشر الفيديوهات تحت اسم pickpocketlondon لتلقى رواجاً كبيراً في موقعي انستغرام وتيك توك فحصدت ملايين المشاهدات.
الشرطة الإنجليزية وضعت هدفاً لتقليل السرقات بنسبة 30% في العام 2025، عبر خطة أمنية محكمة رأينا فيها ما يبدو أنهم عسكريون في ثياب مدنية وتكثيف الدوريات في الأزقة لتصبح جاهزة للانقضاض على المجرمين.
للمجتمعات دور مشرف في حراسة قيمها وفي التصدي للأعمال المشينة، منها حملة أمريكية ضد الكراهية شعارها: ليس في مدينتنا (Not in Our Town)، حيث توحدت جهود الشرطة والمجتمع المدني في مواجهة عصابات التطرف.
وأذكر أنني رأيت ذات يوم طفلاً التقط كيساً ألقاه أحد المارة على قارعة الطريق ليضعه في سلة المهملات.. هذا الموقف لا ينم سوى عن تربية جيدة لهذا الطفل الذي لا شك أن أحد والديه قد عوّده على ذلك.
ورأيت موقفاً مناقضاً، حينما لحق أحد كبار السن بشخص ثلاثيني ليعنفه لفظياً على الفعل نفسه! كان يمكن أن يحذو المسن حذو الطفل الذي قدم اعتراضاً صامتاً على سلوك مستهجن..
فهنا يبرز مفهوم القبول الاجتماعي Social Validation، حيث إن تصرف الطفل البسيط حمل رسالة اجتماعية قوية، تمنح السلوك الإيجابي شرعية وقبولاً عاماً، في مقابل الرفض العلني الذي أظهره كبير السن للسلوك السلبي.
ولذلك سرعان ما يتحول التصفيق في قاعة المسرح من مبادرة قلة إلى موجة عارمة تجتاح الجمهور.. وتمنح الإعجابات لأي منشور في منصات التواصل مصداقية على نحو متزايد كلما ارتفع عددها..
ويصبح الالتزام بالطابور قاعدة غير مكتوبة يفرضها المجتمع حين يواجه المتجاوز بنظرات استنكار. جهود المجتمع المدني مسألة في غاية الأهمية، غير أن نشاطهم ينبغي ألا يتعارض مع القوانين واللوائح، فلا يثير الفوضى، وهو في نهاية المطاف جهد مكمل لجهود الدولة.
حين يمنح المجتمع تأييده العلني للسلوك القويم، ورفضه الصريح للخطأ، يصبح هو حائط الصد الأول لحماية قيمه قبل أن تتحرك أجهزة الدولة.