د. أحمد عبدالله النصيرات
في زمن تتقاطع فيه التحديات المناخية مع الأزمات الاقتصادية والصراعات الجيوسياسية، يصبح الحديث عن الأمن الغذائي أكثر من مجرد نقاش حول وفرة الطعام، إنه حديث عن حق الإنسان في الحياة الكريمة، وعن قدرة الدول على حماية شعوبها وصون مستقبلها. ومن بين دول العالم التي وضعت هذه القضية في صدارة أولوياتها، تبرز الإمارات برؤية واضحة، تجعل من الاستدامة مفتاحاً لبناء أمن غذائي راسخ، يوازن بين احتياجات اليوم وتطلعات الغد، ويحوّل الصحراء إلى واحة ابتكار وإنتاج لا ينضب.لم يعد الأمن الغذائي مجرّد قضية مرتبطة بزيادة مصادر الغذاء وتنوّعها، أو تأمين سلاسل الإمداد فحسب، بل أصبح مسألة استراتيجية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستدامة، بدءاً من إدارة الموارد الطبيعية، مروراً بالابتكار في أنظمة الزراعة، وحماية الثروة الحيوانية، ووصولاً إلى الحدّ من الانبعاثات الكربونية. ومن هذا المنطلق، وضعت الإمارات خططاً وطنية تسعى إلى تعزيز الإنتاج المحلي، وتبنّي الزراعة الذكية، وتنويع مصادر الغذاء.
وفي هذا الإطار، يبرز التغير المناخي بوصفه التحدي الأكبر أمام العالم، إذ ترتفع درجات الحرارة وتتراجع الموارد المائية وتتأثر المحاصيل، ما يجعل تأمين الغذاء تحدياً عالمياً لا يقلّ أهمية عن أي قضية استراتيجية أخرى. وقد أدركت الإمارات مبكراً أن مواجهة هذا التحدي لا تكون إلا عبر حلول مبتكرة ومستدامة، فبادرت إلى إطلاق مشاريع الزراعة العمودية، والزراعة المحمية، التي توفر إنتاجاً وفيراً مع استهلاك أقل للمياه، إلى جانب تعزيز الثروة الحيوانية، وتطوير محاصيل زراعية قادرة على التكيف مع الظروف القاسية في البيئة الصحراوية. وبهذا تحوّلت الصحراء إلى مصدر عطاء، وأثبت الاستثمار في البحث والتطوير العلمي أنه الطريق الأضمن لتحقيق الاكتفاء وتعزيز الأمن الغذائي المستدام.
وانطلاقاً من قناعتها بأن الأمن الغذائي لا ينفصل عن الجهد العالمي لمواجهة التغير المناخي، وسّعت الإمارات دورها خارج حدودها من خلال استضافة مؤتمر (كوب 28)، الذي أسفر عن "اتفاق الإمارات" التاريخي لتعزيز العمل المناخي العالمي. وشمل الاتفاق ربط السياسات الزراعية والغذائية الوطنية، بخطط الحدّ من الانبعاثات الكربونية، وحماية التنوع البيولوجي. كما صادقت 159 دولة على إعلان الإمارات بشأن الزراعة والغذاء والمناخ، داعية إلى وضع الغذاء في قلب أجندة المناخ. وقد أتاح (كوب 28) منصة لدعم المبادرات التي تربط بين مكافحة التغير المناخي وتحقيق الأمن الغذائي، مؤكداً أهمية تعزيز النظم الغذائية المستدامة، لتعزيز صمودها أمام التغيرات المناخية، وتحقيق أهداف الحدّ من الاحترار العالمي.
وفي موازاة ذلك، تولي الدولة أهمية كبيرة لدور المجتمع في هذه الرؤية، من خلال تشجيع الزراعة المنزلية وتوسيع المساحات الخضراء في المدن. فهي ليست مجرد أنشطة بيئية، بل استثمار طويل الأمد في صحة الأفراد وجودة حياتهم، وأداة فعالة لتقليل الانبعاثات وتعزيز التوازن البيئي، ما ينسجم مع استراتيجية الإمارات للحياد المناخي 2050.
إن التجربة الإماراتية في مجال الأمن الغذائي والاستدامة، ليست مجرد خطة اقتصادية أو مبادرة بيئية، بل هي رسالة أمل للعالم تؤكد أن التحديات مهما كانت قاسية، يمكن أن تتحول إلى فرص للنمو والابتكار. فحين تتلاقى الإرادة السياسية مع العلم والتكنولوجيا، وحين يشارك المجتمع بأكمله في بناء مستقبل مشترك، يصبح الطريق نحو أمن غذائي مستدام، واقعياً وممكناً. وهذا ما تسعى الإمارات إلى تحقيقه: أن تزرع اليوم، لتمنح الأجيال القادمة غداً أكثر أمناً وازدهاراً واستدامة.