شما بنت محمد .. تكريم الشخص والمسار

علي عبيد الهاملي

عندما كرّمت ندوة الثقافة والعلوم بدبي الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان، بوصفها «الشخصية الثقافية» للدورة التاسعة والعشرين من «جائزة العويس للإبداع»، لم تكن تحتفي بتكريم شخص فقط، بل بمسار فكري متكامل، وبنموذج إنساني وثقافي تشكّل عبر سنوات من العمل الهادئ، والرؤية الواضحة، والإيمان العميق بأن الثقافة ليست ترفاً، بل مسؤولية وطنية ومجتمعية.
هذا التكريم يأتي في سياق وطني أوسع، يعكس إيمان قيادة دولة الإمارات العميق بدور المرأة بوصفها شريكاً أصيلاً في مسيرة البناء والتنمية، لا تابعاً ولا مكمّلاً. فمنذ البدايات الأولى، رسّخ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، قناعة أصيلة بأن المجتمع لا يمكن أن ينهض بنصف طاقته، وأن تمكين المرأة هو تمكين للوطن بأسره.
وتواصل هذا النهج في رؤية القيادة الرشيدة اليوم، التي وفّرت للمرأة الإماراتية بيئة تشريعية وتعليمية ومؤسسية مكّنتها من الحضور الفاعل في مجالات الفكر والثقافة وصناعة القرار والعمل المجتمعي.

المرأة الإماراتية، منذ البدايات الأولى، لم تكن على هامش المشهد، بل في قلبه. غير أن التحدي الحقيقي كان دائماً في القدرة على الاستدامة والتجديد، وعلى بناء أثر يتجاوز اللحظة إلى المستقبل.
وفي هذا السياق، تبرز تجربة الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان، باعتبارها تجربة مؤسسية لا موسمية، قائمة على التخطيط طويل الأمد، وعلى الاستثمار في الإنسان بوصفه الثروة الأغلى، فقد استطاعت أن تحوّل الثقافة من خطاب نخبوي إلى فعل مجتمعي، ومن فكرة مجردة إلى مشاريع حية تمسّ الإنسان في تعليمه، ووعيه، وانتمائه.

في مجال الريادة الفكرية، لم تكتفِ الشيخة الدكتورة شما بالحضور الأكاديمي أو بالمشاركة في الفعاليات الثقافية، بل سعت إلى بناء منصات للحوار، وفتح مسارات جديدة للتفكير، وتشجيع البحث العلمي المرتبط بقضايا المجتمع والهوية والتنمية.
وقد بدا واضحاً، عبر مبادراتها ومشاركاتها، أن الثقافة في تصورها ليست محفوظات تُستعاد، ولكنها أسئلة تُطرح، وإجابات تُختبر، وأنها مسؤولية أخلاقية تجاه الأجيال القادمة.

أما في العمل المجتمعي، فقد قدّمت نموذجاً متقدماً للقيادة الثقافية التي تنحاز للناس، وتؤمن بأن المعرفة لا تكتمل إلا إذا انعكست على الواقع. فالمبادرات، التي أطلقتها أو دعمتها، حملت دائماً هذا البعد الإنساني العميق، حيث الثقافة أداة تمكين، لا مجرد عنوان بروتوكولي، أو شعار لمرحلة تنتهي بانتهاء الغرض.

وإذا كانت الساحة الثقافية الإماراتية قد شهدت خلال العقود الماضية نمواً لافتاً في المؤسسات والجوائز والفعاليات، فإن التحدي اليوم هو الحفاظ على هذا الزخم، وعلى استدامته وامتداده.
هنا تكمن قيمة هذا التكريم، لأنه يسلّط الضوء على تجربة تعيد التذكير بأن الجوائز، مهما بلغت أهميتها، تظل وسيلة للاحتفاء بالقيم، لا غاية في ذاتها.

وجائزة العويس للإبداع، وهي تختار الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان، تؤكد أن الإبداع لا يُقاس فقط بالنصوص والمنتجات الثقافية، بل أيضاً بالقدرة على صناعة الأثر، وعلى بناء بيئة حاضنة للفكر الحر والمسؤول.

وهو اختيار يعكس وعياً عميقاً بدور «الشخصية الثقافية» بوصفها ضميراً معرفياً، لا مجرد واجهة رمزية. وهو ما تأكد عبر مسيرة الجائزة الممتدة على مساحة من الزمن، بلغت حتى الآن 35 عاماً.

التكريم، في جوهره، ليس لحظة احتفال عابرة، بل رسالة إلى الأجيال الجديدة، تقول إن العمل الثقافي الجاد لا يضيع، وإن الاستثمار في الفكر هو استثمار في مستقبل الوطن.
وهو أيضاً رسالة تؤكد أن المرأة الإماراتية، حين تُمنح الثقة والمساحة، قادرة على أن تكون في طليعة المشروع الحضاري، لا على هامشه. ولنا في الأسماء التي كرمتها ندوة الثقافة والعلوم، من خلال جائزة العويس للإبداع وغيرها من الجوائز، خير دليل وأفضل مؤشر على ذلك.

إن تكريم الشيخة الدكتورة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان هو تكريم لفكرة الثقافة نفسها، بوصفها جسراً بين الماضي والمستقبل، وبين الفرد والمجتمع.
وهو تأكيد جديد على أن الإمارات، وهي تمضي بثبات نحو آفاقها التنموية، لا تنسى أن الثقافة كانت وستظل أحد أعمدتها الراسخة، وأن وراء كل مشروع وطني ناجح، عقلاً مستنيراً، وإرادة مؤمنة بدور الثقافة في بناء الفرد والوطن، وشخصيات نذرت نفسها لخدمة الإنسان والمعرفة.



شريط الأخبار