د. موزة غباش
في كل مرة أقترب فيها من شاطئ، أستمع إلى صوت البحر كأنه صوت الأسلاف. يحمل الموج الذاكرة، وتتناثر على الساحل روائح الخشب، وصدى النهمة، وغبار اللؤلؤ. البحر يفتح صدره للمراكب، ويضم الغواصين كأب يحتضن أبناءه.شكّل البحر، في دولة الإمارات، مجالاً يومياً لحياة متكاملة، ومسرحاً رمزياً يعبر عن القيم، وعن روح المجتمع، وعن نبض العمل المتواصل. كان البحر مساحة للخيال والموروث، يصدر المعنى الذي يحكي أعذب القصص وأشد اللحظات كثافة. كل شيء في بحرنا الجميل يتحرك في إيقاع جماعي، يبدأ مع «صف القفال»، ويمتد إلى وقت العودة. الغواصون يتهيأون للصعود فوق السفينة الشراعية، ومعهم السيوب والطواويش، ولكل واحد منهم دور محدد في هذه المنظومة.
صوت النهام يسبق المجداف، والنشيد يفتح الطريق قبل الغوص. النهمات مثل «عنبر» و«يامسافر» و«بينونة» تنساب فوق الماء كما ينساب الدعاء على اللسان. في إحدى القصائد يقول النهام:
يا مال يا مال أووه يا مال
يا عمة الخير لا تسعين بالفرقة
بيني وبين الأهل لا بد من الفرقة
أول شبابي بليت بعمة قشرة
كذلك الدول وان طاح الجنوب أشرا
الغواص الإماراتي يجوب أعماق البحار إيماناً بالرزق المختبئ في صدفة. يبدأ موسم الغوص الكبير في الصيف، ويمتد إلى شهور كاملة، يقضي خلالها الرجال أيامهم ولياليهم على ظهر السفن. خلال هذا الموسم، تتجلى منظومة متكاملة من التعاون، والتنسيق، والالتزام. النهام يشدو، والغواص يهبط، والسيب يجهز الحبل، والطواش ينتظر اللؤلؤ. وفي كل محطة من الرحلة تنبعث الأهازيج:
دار الهوى شامي يا بو عبدالله
سنيارنا سافر وتوكل بالله
حمل اللؤلؤ في الإمارات علامات التاريخ والجمال. كان أكثر من زينة، وأغلى من حجر. كل لؤلؤة تحمل أثر العرق، وإشراقة البحر، وتوق الإنسان للتفرد والتميز. في روايات الطواويش، توصف اللآلئ بالأسماء: «الدانة»، «البدلة»، «الرأس»، وكل اسم يشير إلى درجة البريق والشكل والنقاء، فالمجتمع يفرز نخبة من الغواصين، ويكرم الذين يتقنون لغة البحر الصعبة.
كان جدي الشاعر حسين بن ناصر آل لوتاه، رحمه الله، يقول: «البحر علمنا السعي في طلب الرزق، وعلمنا القناعة والرضا بما قسم الله، وتجنب الطمع والمخاطرة، واللؤلؤ علمنا الحكمة»، لذلك فإن الاقتصاد الذي نبت من البحر آنذاك لم يصنع فقط تجارة مزدهرة، بل أسس لثقافة اجتماعية متماسكة، تقاس فيها القيم بروح العطاء والتراحم، فالسفن تعود محملة باللآلئ، والقلوب محملة بالأمل، والمجالس تعيد رواية المواسم بأهازيج حية.
يا بحر رد في بحورك
يا بحر يكفينا شرورك
وإذا أبحرت السفينة في وجه الرياح العاتية، فإن النهام يوجه الدعاء:
هب كوس ومطلعي شلي
نوخذانا يصيح ويصلي
يدعي يا رب تنجينا
الموروث البحري الإماراتي يتعدى المهنة إلى التكوين الروحي، فالغناء في البحر طقس، والقصيدة أداة لتوزيع الشجاعة. ومن سفن «البتيل» و«السمبوك» إلى تفاصيل «الجفر» و«الخراب»، تتشكل مشاهد لا تُنسى. الحبال التي تُخطف، والأشرعة التي ترتفع، تسير على إيقاع القصيدة:
يا والي الأمر كله
عبدك تحير ابدْله
وان كان بامرك تحير
ما يك من الجود هله
هذا التراث الجميل الذي يفيض من بحارنا الإماراتية الساحرة أصبح جزءاً راسخاً من الهوية.
كلنا يعلم أنه في زمن ما قبل اكتشاف النفط، شكلت مهن الغوص وصيد اللؤلؤ أحد أعمدة الاقتصاد المحلي، وأسهمت في ازدهار التجارة في الإمارات ودول الخليج العربي.
اليوم، يعود هذا الموروث كمصدر حضاري عريق. فالحرف المرتبطة بالبحر، من صناعة المحامل إلى النهمات إلى الطواشة، يمكن إعادة استكشافها وتطويرها لتتحول إلى صناعات ثقافية وسياحية تروي قصة الوطن وتمنح الأجيال فرصة للانتماء والإبداع.
القصائد التي كتبها وغناها أجدادنا عن البحر، والحكايات التي وردت في النهمات والأهازيج، تشكل ذاكرة جمعية يجب توثيقها وحمايتها، ضمن كنوز التراث الوطنية. هذه النصوص الشفهية ليست فقط ماضياً يُروى، بل نصوص حية قابلة لأن تُعاد صياغتها وتقديمها بلغة تراثية عالمية، تُظهر للعالم الوجه الحضاري العميق لدولة الإمارات، حيث يتجدد الجمال، وتبقى القصيدة نافذة على البحر والهوية والمستقبل.
البحر في ذاكرة الإمارات شاعر، يروي ويغني ويربي ويبني. كل موجة تحمل سيرة، وكل لؤلؤة تختزن قصة، وكل غوصة تفتح أفقاً جديداً.