منى خليفة الحمودي
عندما ذكر هيجل في كتابه فلسفة الحق أن الدولة هي العقل الأخلاقي الفعلي، والإنسان لا يجد حقيقته إلا بكونه جزءاً منها، رسم منظوراً مختلفاً للدولة كونها كياناً ينأى بنفسه عن صفة السلطة الفوقية، ليصفها بالعقل الجمعي، الذي ينهض على الإدراك العميق لطبيعة الإنسان كونه مخلوقاً لا تكتمل حقيقته إلا في إطار الانتماء والغاية المشتركة، فليس من الدقة اختزال الدولة في مؤسساتها أو قوانينها.
فهذه مجرد مظاهر خارجية لما هو أعمق، فالعقل الذي ينتجها، ويعيد تشكيلها تبعاً للتحولات ليس فعلاً فردياً بل منظومة إدراكية، تعمل على مستويات متداخلة متمثلة في الرؤية والقرار والتقدير والحساب طويل المدى، إنه العقل الذي يوجه أدوات القوة نحو الصالح العام، ويدير السلطة برؤية تستشرف تحولات الزمن، وحين تعمل الدولة بعقل مفكر فإنها لا تدير الواقع كما هو، بل تعيد تعريفه وفق مشروعها الخاص، ومن هنا تغدو الدولة قادرة على تحويل التحديات إلى أدوات بناء.
والأزمات إلى فرص تنظيمية، لأن عقلها لا ينفصل عن قدرتها على إدراك الزمن، وتدوير الإرادة الجماعية، ضمن هندسة فكرية تستوعب اللحظة، وهذا يحيلنا إلى التفكير بالفرق الجوهري بين الدولة الناجحة والهشة، فالأولى يتقد عقلها بالتغيير المستمر، والثانية تستهلكه حتى الانطفاء.
وعندما نتحدث عن مثال حي لنموذج متكامل تظهر تجربة الإمارات كونها تجلياً لنموذج فكري سبق بنيته الزمنية، إذ لم تكن لحظة تأسيسها وليدة ضغط تاريخي أو محض تسوية جغرافية بل ثمرة إدراك مبكر لطبيعة الدولة.
وما تتطلبه من هندسة واعية للمستقبل، ولقد تشكل هذا الوجود السياسي من عقل سبق بنيته، ومن وعي جماعي اختار أن ينتج مشروعه على الاتزان لا على التعصب، وعلى التخطيط لا على المصادفة.
أما القيادة وهي بؤرة عقل الدولة فليست مجرد سلطة تنفيذية تدير القرارات، بل هي انعكاس لإرادة التفكير الجماعي، والمجال الحيوي الذي تصاغ فيه الرؤية، وتتحول فيه المعاني إلى آليات، إنها المستوى الذي تندمج فيه المعرفة بالقرار، والبصيرة بالفعل، والزمن بالرؤية، فوعي القيادة الرشيدة بطبيعة التحولات أسهم في تعزيز قدرة الدولة على ترجمة التحديات إلى نموذج دبلوماسي منتج.
وقد جسّد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه حكام الإمارات، هذا المعنى في لحظة التأسيس، إذ لم يقاربوا الاتحاد بوصفه اتفاقاً تاريخياً حتمياً، بل اعتبروه لحظة وعي وقرار مصيري في تشكيل كيان سياسي اتحادي.
حيث كان هذا التحالف بذرة النور الأولى، التي تجاوزت حالة تردد تاريخي عطّلت بدورها ولادة الدولة العربية الحديثة في أماكن أخرى.
ومنذ تلك اللحظة انطلقت الإمارات في مسار واعٍ لتطوير عقلها الجمعي، فكانت القرارات تعبيراً عن مرونة فكرية لا عن استجابات ظرفية، لذا أصبحت المؤسسات منصات لإنتاج معرفة تنظيمية تستشرف التحول.
وفي هذا السياق نشأ التفكير البنيوي ليعزز القرار الوطني، ويحافظ في الوقت ذاته على الهوية وجذورها الراسخة بوصفها كياناً حياً نابضاً، يجمع بين الإرث والانفتاح، وبين الثبات والتطور، وبين الخصوصية والانخراط العالمي، وهنا يتجلى الفرق بين الدولة، التي تكتفي بتكرار الماضي، وتلك التي تبتكر لغتها الخاصة في صناعة المستقبل.
إن الدول التي تفكر لا تخشى التحول، لأنها تملك أدوات قراءته وتوجيهه، والدولة التي تمتلك عقلاً مرناً لا تكتفي بإدارة الحاضر بل تصوغ احتمالاتها عبر الزمن، وتعيد تشكيل هويتها كونها مساراً واعياً لا إرثاً جامداً.
وفي عالم مضطرب الإيقاع لا تحتفظ الدول بمكانتها بقبضة من حديد، بل عبر حفاظها على عقلها الجمعي يقظاً، منتجاً للمعنى، ومهيأ للتجدد، وهكذا تروي الإمارات قصة متفردة، وتظل حاضرة كونها نموذجاً عالمياً ملهماً، تزدهر بثبات وبوعي سيادي يجعل التفكير سِمة مؤسسية، وبنية تحتية فكرية لوطن يشرئِب نحو النور.