حين نكتب لنزعج القارئ

علي عبيد الهاملي

ليس كل طرق الكتابة مفروشة بالورود. هناك طرق مليئة بالأشواك، يسلكها الكاتب وهو يدرك أن خطوته التالية قد تزعج القارئ، لكنه الإزعاج الذي يوقظ، لا ذلك الذي يؤذي.
القلم، حين يكون صادقاً، لا يوزّع الطمأنينة بالمجان، ولا يسعى إلى استرضاء العيون التي تمرّ على السطور. القلم الحقّ يختار أن يضع القارئ أمام مرآة الحقيقة، حتى لو كره ما يراه.

لعل هذا ما عبر عنه الأديب المصري صنع الله إبراهيم، الذي رحل عن دنيانا الأسبوع الماضي، حين قال: «لا أكتب كي أريح القارئ، بل كي أزعجه وأدفعه للتفكير». جملة تلخّص فلسفة الكتابة التي لا ترضى أن تكون مسكّناً للعقل، بل صدمة توقظه من غفوته، وتنفض عن قلبه غبار العادة.
القارئ، مثل أي إنسان، يميل بطبعه إلى ما يمنحه السكينة والطمأنينة. لكن الطمأنينة المفرطة تُنتج الركود، والركود يولّد الجمود، والجمود عدو الحياة. لذلك، فإن دور الكاتب الحقيقي هو أن يوقظ القارئ من هذا الركود، أن يضع أمامه أسئلة محرجة، وحقائق قد لا يحب مواجهتها، وأن يفتح له نوافذ على مناطق مظلمة في ذاته أو في مجتمعه.
الكاتب الذي يختار هذا الطريق يدرك أن مهمته أصعب بكثير من مهمّة من يكتفي بالمداعبة الفكرية أو الإطراء العاطفي. وكان هذا ما اختاره الراحل صنع الله إبراهيم طوال حياته التي امتدت 88 عاماً.

حين قابلته للمرة الأولى، عندما كنت أحضر مهرجان «المدى» في دورته الثالثة، التي أقيمت بمدينة الياسمين دمشق عام 2002، لفت نظري هدوؤه. كان هدوء صنع الله إبراهيم لا يوحي بالضجيج الذي تمتلئ به رواياته، مثل رواية «شرف» التي احتلت المرتبة الثالثة ضمن أفضل 100 رواية عربية في القرن العشرين. لم يبدُ لي مزعجاً أبداً عندما رأيته.
ربما لأنه كان يمارس هذا الإزعاج من خلال رواياته ومواقفه التي أدخلته السجن، ودفعته إلى رفض بعض الجوائز الأدبية. هذا مجرد توصيف لشخصية صنع الله إبراهيم، وليس تحليلاً لها.

الإزعاج هنا لا يعني الإساءة أو الاستفزاز المجاني، بل تحريك المياه الراكدة في ذهن القارئ. فالكاتب حين يضع القارئ أمام مرآة تكشف عيوبه أو تناقضاته، فإنه يقدّم له خدمة عظيمة، حتى وإن بدا الأمر مزعجاً في لحظته.
هذا الإزعاج الإيجابي هو ما يدفع القارئ إلى إعادة التفكير فيما يعتنقه من أفكار، ومراجعة أحكامه المسبقة، وربما اتخاذ مواقف جديدة أكثر وعياً ونضجاً.

حين تتحول الكتابة إلى أداة للتجميل والتزيين فقط، فإنها تفقد جزءاً كبيراً من قيمتها. مسؤولية الكاتب أن يكون ضميراً يقظاً، وصوتاً ناقداً، ومرشداً نحو التفكير العميق.
هذا الدور يضع الكاتب أحياناً في مواجهة مباشرة مع القارئ، بل ربما مع المجتمع كله، لكنه ثمن لا بد من دفعه إذا أراد أن تكون كتابته مؤثرة وفاعلة.

التاريخ الأدبي حافل بنماذج من الكتّاب الذين اختاروا أن يكتبوا ليهزّوا وعي القارئ، من جورج أورويل الذي فضح أنظمة الاستبداد في «1984»، إلى توفيق الحكيم في مسرحياته العبثية، وغسان كنفاني الذي حوّل الرواية إلى ساحة مواجهة فكرية مع الاحتلال والاغتراب. هؤلاء وأمثالهم من الكُتّاب لم يبحثوا عن رضا القارئ، بل عن إيقاظه.
الكتابة التي تدفع القارئ للتفكير ليست عملية من طرف واحد. بل هي شراكة صعبة بين الكاتب والقارئ، شراكة تحتاج كاتباً جريئاً وقارئاً مستعداً لأن يبذل جهداً، ويفتح ذهنه لأسئلة قد تُربكه. وكما أن الكاتب يتحمّل مشقة البحث والتأمل والكتابة، فعلى القارئ أن يتحمّل مشقة التفاعل والنقاش والجدل الداخلي.
الكتابة التي تُريح القارئ تشبه الموسيقى الناعمة التي ترافق نومه، أما الكتابة التي تُقلقه فهي مثل صوت جرسٍ في منتصف الليل، يوقظه ليخبره أن شيئاً ما في حياته أو في عالمه يحتاج إلى أن يتغيّر.
الكاتب الذي يجرؤ على إزعاج القارئ، هو الذي يمنحه في الحقيقة أعظم هدية؛ أن يعيده إلى نفسه، أن يزرع في عقله بذرة سؤال، وفي قلبه شعلة بحث. وحين يغلق القارئ الكتاب أو ينهي قراءة المقال، ويجد أن الفكرة ما زالت تلاحقه في صمته، يكون الكاتب قد نجح في مهمته. فالكتابة الحقيقية لا تنتهي عند آخر سطر، بل تبدأ منه.



شريط الأخبار