محمد خالد الأزعر
مطالعة تجارب العواصم الغربية الفاعلة مع المنطقة العربية أو الشرق أوسطية بمنظور بانورامي شامل، لا سيما خلال الـ100 عام الأخيرة، تصل بنا إلى قناعة عامة مفادها أن النخب الغربية الحاكمة تأخذ بسياسة النفس الطويل.
وأنها مع تواليها على سدة الحكم وصناعة القرار تتوارث أيضاً ذاكرة مشحونة برؤى ومخططات تطفو وتسطع كما تكمن وتتوارى، وفقاً لشروط ومحددات بعينها، لكنها تكاد تستعصي على الأفول أو الغياب بالكلية.
بين ما يوحي بهذا التقدير أن الكثير مما يجرى التداول حوله اليوم سراً وعلانية من ملفات تتعلق بشؤون منطقتنا وشجونها، لا يعد بالمطلق مستجداً أو بدعاً مما عرفته وتم تصديره إليها من أروقة عواصم الغرب ذات الصلة، فضلاً عن تل أبيب في مراحل غير بعيدة.. فكأننا إزاء عملية ترويج للمنتجات ذاتها بعد إعادة تصنيعها ثم عرضها في طبعات منقحة.
مشروع تهجير فلسطينيي غزة المحلق راهناً في الفضاءين الإقليمي والدولي، هو نسخة قليلة التعديل من الفكرة ذاتها التي طرحت بقوة في مستهل خمسينيات القرن الماضي.. تارة بشكل مباشر من جانب الولايات المتحدة، وتارة بشكل غير مباشر.
ومن المعلوم أن تلك المحاولات آلت حينها إلى الفشل، بفعل استبسال الفلسطينيين في الدفاع عن الأبعاد السياسية لقضيتهم الوطنية، عوضاً عن ما كان يضمره التهجير وما زال من طي لهذه الأبعاد.
أيضاً ينتمي إلى تجريب المجرب محاولة إسرائيل بعث بدعة روابط القرى في الضفة المحتلة التي ظننا أنها قبرت فور ظهورها قبل أربعين عاماً.. واللافت أن إسرائيل تعاود إحياء هذه البدعة من النقطة الجيوغرافية ذاتها التي اتخذتها منطلقاً لها أول مرة..
وذلك بالاتكاء على التأثيرات الاجتماعية لبعض الوجهاء والمحاسيب العشائريين وتحويلها إلى مكونات سياسية.. لكنها للإنصاف ارتقت بعنوان المحاولة من رابطة إلى إمارة، وأفصحت عن هدفها القديم بلا مواربة.
وهو تلفيق بديل يدعي التحدث باسم الفلسطينيين ويمثلهم غير منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية في رام الله، ويعد بما لم تجرؤ صيغة الروابط على الالتزام به علناً السلام مع إسرائيل وإبرام اتفاقات معها بعد الاعتراف بها دولة يهودية.
إذا وسعنا دائرة الاستذكار تأكدنا أن بعض الخرائط التي استهدفت هندسة الجوار الإقليمي لفلسطين التاريخية قبل أكثر من 100 عام، ما زالت قيد النظر حتى اللحظة! وبالخصوص يلح على الخاطر نموذجان..
يتعلق الأول بالأطماع الاستعمارية الإسرائيلية لاحقاً في جنوب لبنان وصولاً للسيطرة على مياه الليطاني.. فقد ناشد حاييم وايزمان، زعيم الحركة الصهيونية البارز.
وأول رئيس لإسرائيل، مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 بأن يكون نهر الليطاني ضمن الحدود الشمالية للكيان الصهيوني المقترح، بالنظر بزعمه لقلة فائدته للبنان! ومن توالي الوقائع وأهمها أخيراً حديث نتانياهو عن تعلقه بخريطة إسرائيل الكبرى، نفهم أن الإسرائيليين لم يتخلوا حتى ساعتنا هذه عن جوهر هذه المناشدة.
أما النموذج الثاني فمحوره عدم الاكتفاء بعملية التجزئة والتقسيم الجيوسياسي الذي كرسه اتفاق سايكس - بيكو، وتوجه المستعمر الفرنسي عام 1920 ممثلاً بالجنرال غورو لتقسيم الدولة السورية إلى 5 دويلات كانت إحداها تحمل اسم جبل الدروز.
المدهش، أنه بعد 100 عام من فشل ذلك التوجه، ثم رحيل الفرنسيين واستقلال سوريا بقوامها المعروف اليوم، يطل الإسرائيليون على المشهد الإقليمي وقد تأبطوا خريطة غورو..
بل ويحدوهم الأمل بأن يستهلوا تطبيق هذه الخريطة بمحاولة سلخ جبل الدروز وعاصمته السويداء الذي للمفارقة التاريخية كان معقل قائد الثورة الشعبية العامة ضد غورو وجنوده ومشروعهم اللئيم.
يتصور الإسرائيليون ومحازبوهم من نخب الغرب الشغوفة بعقلية وروح سايكس - بيكو وتوابعه، أن المستجدات والمتغيرات المحيطة بهم فلسطينياً وإقليمياً ودولياً أصبحت تعمل في صالحهم، وأن الفرصة مواتية لتحقيق مآربهم التي يبدو أنها لا تتقادم..
فالمقتلة وسياسة الأرض المحروقة في غزة، قد لا تدع أمام الغزيين إلا طريق الهجرة واللجوء واستطالة أمد الانقسام الذي يعصف بالحالة الوطنية الفلسطينية العامة، ويغري بمرور روابط القرى في حلتها الجديدة.
والوضعية القلقة شبه الانتقالية للحالتين اللبنانية والسورية، فضلاً عن تعرض المنطقة بعامة لاختبارات الشد والجذب في القلب والأطراف، قد تسمح بالعبث في خرائط المنطقة لصالح إسرائيل، بل وربما أطمعت نتانياهو وبطانته من غلاة المتطرفين بمد بصرهم إلى ما هو أبعد شرق أوسطياً من هذه الأهداف. لذا لزم التنويه.