أ.د. محمّد عبد الرّحيم سلطان العلماء
«الناسُ نوعان: زائدٌ على الحياة، وزائدٌ فيها، وزايد بن سلطان من النوع الثاني، زاد إلى حياته حياة شعب، وأضاف إلى مسيرته إحياءَ أمة، ونفع بحكمته وحنكته ملايين البشر.
هذا هو الخلود الحقيقي»، بهذه الكلمات المتوهّجة بالحبّ والوفاء وصف صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، الجوهر العميق لشخصية المغفور له طيب الذكرى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيّان، رحمه الله، حين وصل إلى سيرته الطيبة في سيرته الذاتية (قصّتي: 50 قصة في خمسين عاماً) وهي كلمة مقتصدة لكنّها عميقة الدلالة على الحضور الفريد لذلكم المؤسّس الباني الذي أضاف إلى الحياة سيرة ستظلّ الأجيال عميقة الوفاء لها كمظهرٍ متفرّدٍ من مظاهر الخلود الإنساني في الضمير العامّ للوطن وأبنائه الأوفياء المخلصين.
وسيشهد التاريخ وسيكتب بحروف الحقيقة أنّ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد كان رجلاً من هذا الطراز الفريد، كان زائداً في الحياة وصانعاً كبيراً من صُنّاع المعنى الجميل للحياة التي تليق بالإنسان.
وأنّ ما أنجزه وما سينجزه في مسيرته الرائعة هو خير شاهد وأصدق دليل على ما بذل من الجهود المضنية في سبيل سعادة شعبه والارتقاء بوطنه إلى مصافّ الدول التي تليق بها الحياة الطيبة الكريمة، وأنّ سعادة شعبه وتقدّم وطنه كانت هي أطيب الطيبات في وجدانه المعمور بالوفاء لهذا الوطن وحبّ إنسانه الطيب النبيل.
بإحساسٍ عميق بالتواضع، ورغبة صادقة في النفع، نشر صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم الجزء الأول من كتابه الموسوم باسم «علّمتني الحياة» اشتمل على ستة وثلاثين درساً من دروس الحياة التي عايشها صاحب السموّ خلال فترةٍ تقترب من ستين عاماً في سياسة الحياة والناس والحكم، كان فيها مفتوح العين والبصيرة على كلّ ما يُحيط به، ويرقب بذكائه المعهود تحوّلات النفس الإنسانية.
ويقتنص العِبَر والدروس التي تستحق أن تكون مُدوّنة في هذا السِّفْر النفيس الذي يحكي في جزئه الأول قصّة صاحب السموّ مع هذه الحياة، وهي القصّة التي كان للعمران والبنيان أن يشيرا إلى محتواها لكنه آثر أن يكتب الحياة كما عاشها، وأن يصوغها على شكل حكمةٍ عميقةٍ في أسلوبٍ بسيط تستلهمه الأجيال، وتأخذ منها الدّروس والعبر، وهو ما عبّر عنه بقوله في الصفحة الأولى من الكتاب:
«أفضلُ إرثٍ نتركه ليس الأموال ولا العمران والبنيان، بل الحكمة الحقيقية، والمعرفة النافعة والكلمة الطيبة التي تتجاوز حدود الأزمان والأوطان، ويستفيد منها القاصي والداني»، فالحياة بالنسبة لصاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد هي المدرسة الكبرى التي يتعلّم فيها الإنسان أعمق الدروس، ويأخذ منها أصدق الخبرات، وهو ما عبّر عنه بكل جزم ووضوح حين قال في كتابه الثمين (رؤيتي):
«أنا ابن قبيلة عربية في النهاية، وأبناء القبائل يستقون العلم والحكمة وبُعد النظر من أهلهم أكثر مما يستقونها من المدارس، قادةٌ كثيرون لم ينتظموا في المدارس فكانت مدرستهم الحقيقية الحياة، والمراقبة الدقيقة لكل ما يجري حولهم».
أمام كتاب «علّمتني الحياة» يقف الإنسان حائراً بخصوص معضلة الاختيار، فماذا يختار الإنسان من كلام صاحب السموّ وماذا يترك من هذه الدُّرر الغَوالي، فليس من المبالغة في شيءٍ أن يُقال:
إنّ كل درسٍ من الدروس التي اشتمل عليها هذا الكتاب الثمين يحتاج إلى مقالة ضافية تضيء فكرته الأساسية، وتربط على نحو ذكيّ بين جميع أجزاء الكتاب وبين السياق العام لحياة صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد، وهي حياة حافلة بالإنجازات مليئة بالدروس الملهمة والمواقف المشرّفة التي تبعث فينا العزيمة، وتستنهض منا الهِمَم، وتُلهمنا السّير الصحيح في هذه الحياة المليئة بالتحديات والصعوبات.
لقد سبق لكاتب هذه السطور أن توقّف بقراءة متواضعة لافتتاحية هذا الكتاب التي كان عنوانها «لماذا هذا الكتاب؟» حيث تمّت إضاءة هذا السؤال بمقالة طويلة بعنوان «محمّد بن راشد: شهادةٌ أمام التاريخ والوطن» استلهمت الكلمات العميقة التي افتتح بها صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد هذا الكتاب، ولأنّ الحياة الإنسانية قد بدأت بحركة واحدة يسميها علماء الفيزياء لحظة الانفجار العظيم، ارتأى صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد أن يكون الدرس الأوّل الذي تعلّمه من هذه الحياة بعنوان «الرؤية والحركة» .
حيث بدّد في هذا الدرس العميق كلّ ما يفكر به صُنّاع القرار من أنّ الرؤية يجب أن تكون جاهزة كي تنطلق القوى التنفيذية لإنجاز ما تمّ التخطيط له.
لكنّ صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد يؤكِّد خلاف ذلك حين اتخذ مبدأً ثابتاً عبر ستين سنة من العمل خلاصته «الحركة تصنع الإنجاز» لأنّ الإنجاز لا يكون بالانتظار، وليس هو ثمرة الدراسات ولا وليد الخطط، بل هو الثمرة الطبيعية للحركة؛ لأنّ الرؤية لا تتّضح والخُطّة لا تُفهم والطريق لا يظهر إلا حين يبدأ الإنسان بالحركة، وفي هذا السِّياق يستلهم صاحب السموّ مقولة عميقة من التراث الديني تقول: «حين تبدأ السير إلى الله ستظهر لك الطريق».
ومن أجل شحذ الهِمم، وتحريك العزائم يؤكِّدُ صاحب السموّ أهمية الحركة في تحقيق المطالب، ويتوجّه إلى قارئه بضرورة الحركة إذا أراد تحقيق مطالب المجد وفتح الأبواب فيقول:
تحرّك لكي تُفتح لك الأبواب، تحرّك لكي تفهم الطريق ويزول الغموض، تحرّك لكي تكتشف قِمَماً جديدة خلف كلّ جبل تريد أن تقطعه، ثم يترنّم ببيتٍ جميلٍ من الشعر يقول فيه:
أمشي على درب ما تِوطاه الأقدامي
وإن وِعرت الأرض يعجبني المشي فيها
ثم يُجيل صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد نظره الكريم في هذا الكون الفسيح فيرى أنّ أساس الحياة فيه قائمٌ على الحركة، ويستلهم درساً رائعاً من النحلة الطائرة فيقول: «سنّة الكون هي الحركة، قانون الحياة الأساسي هو الحركة، لا يعيش من يظلّ واقفاً متردّداً خائفاً، عندما تطير النَّحلة في بداية يومها، هل لديها خارطة طريق حتى آخر اليوم أو الأسبوع أو الشهر؟».
وقد يفهم القارئ غير ما يريد صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد من تركيزه على قانون الحركة، فيبدّد هذا الفهم حين يجعل الحركة هي الطريق الصحيح إلى الراحة فيقول:
«الطريق إلى الراحة يحتاج حركة، الطريق إلى النجاح يحتاج حركة، الطريق إلى المستقبل يُقطع بالحركة وليس بالانتظار والتردّد»، وهذا الفهم العميق للعلاقة بين الراحة والحركة يذكّرنا بالبيت الشهير لأبي تمام مخاطباً الخليفة المعتصم بعد رجوعه من فتح عمورية قائلاً:
بصُرْتَ بالراحة الكبرى فلم ترَها
تُنالُ إلا على جسرٍ من التعبِ
وبلغة هي غاية في الجزم والوضوح يختتم صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الدرس الأوّل بقوله: «لن تعرف رؤيتك الحقيقية إلا إذا بدأتَ السير؛ هكذا علّمتني الحياة».