نصر العرب

جمال الكشكي

لا شيء يمحو حزن الهزيمة سوى أفراح النصر. واحدة من المحطات التاريخية لهذه الأمة العربية تلك الحرب العظيمة التي نعيش ذكراها هذه الأيام؛ حرب السادس من أكتوبر عام 1973، لم تأتِ الذكرى هذه المرة كسائر المرات خلال 52 عاماً مضت، فهذه المرة تتزامن مع صراع التاريخ والجغرافيا في المنطقة العربية.
لا تغيب عن الذاكرة ملحمة أكتوبر التي وحدت العرب، وأكدت روح العروبة وقيم التضامن عندما يصبح المصير واحداً، تجلت الهمة من كل عواصم العرب من المحيط إلى الخليج، كلٌّ أدى دوره في اللحظة الفارقة، المصير واحد، والهدف مشترك.

كلما حلت ذكرى حرب أكتوبر تذكرت موقف المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، خلال مؤتمر صحافي له في لندن، عندما قال جملته الشهيرة:
«ليس المال أغلى من الدم العربي، وليس النفط أغلى من الدماء العربية التي اختلطت على أرض جبهة القتال في مصر وسوريا»، وقطع النفط كعامل ضغط قوي على الدول الأجنبية، حيث كان الشيخ زايد من أوائل زعماء العرب الذين وجهوا بضرورة الوقوف إلى جانب مصر في معركتها المصيرية ضد إسرائيل.

مؤكداً أن المعركة هي معركة الوجود العربي كله، ومعركة أجيال كثيرة قادمة، علينا أن نورثها العزة والكرامة. إن هذه المواقف العربية ستظل راسخة في الوجدان العربي، وفي القلب منه مصر، فلا شك أن النصر هو نصر لكل العرب وحماية لأمنه القومي.

لا تزال حرب أكتوبر توضع بوصفها نموذجاً عالمياً للحروب المعاصرة في المعاهد العسكرية في العالم، ولا تزال أسرارها الثرية والمتعددة طي معاهد الأبحاث العسكرية، وبشهادة كبار الجنرالات العالميين، فإن أكتوبر صناعة تشبه بناء الهرم في عصور مصر القديمة.
من يستعيد مانشيتات الصحافة في لندن وباريس، وواشنطن، وبرلين، وتل أبيب، يكتشف أن حرب أكتوبر غيرت الأفكار العسكرية والتكنولوجية، وتسببت في صعود أسلحة واختفاء أخرى.
فقد كانت حرباً إلكترونية كاملة، جعلت الاستراتيجية العسكرية في أمريكا وروسيا تنظر على أنها بداية الحرب الحديثة الحقيقية، فلا نكشف مفاجأة عندما نقول إن الطائرات المسيّرة الحالية كانت هناك في تلك الحرب، تحت اسم طائرات دون طيار.

لقد استخدمتها إسرائيل من خلال الجسر الجوي الأمريكي الذي شارك في الحرب، ونستطيع القول إن مخازن السلاح العالمية تم إفراغها في ساحة تلك المعركة، وتم تجريب كل شيء، لكن عبقرية الجندي المصري استطاعت أن تتغلب على هذه الترسانة الرهيبة، بمفهوم التحدي والاستجابة، كان هناك تحدٍ هائل، واستجبنا، وانتصرنا عليه.

في مسارح العمليات تتقاتل الأسلحة، وفي مسارح السياسة، كانت هناك المعارك الدبلوماسية الكبرى التي أفضت إلى قطع البترول العربي عن الغرب، وكانت النتيجة أن وجد الغرب نفسه يعيش في الظلام فجأة، واكتشف أن الشرق حين يريد يستطيع.
كانت المرة الأولى في الحروب التي يستخدم فيها الاقتصاد بهذه الكثافة سلاحاً لا يقل ضراوة عن أسلحة المعركة، ولحظتها عرف الغرب أن الاستراتيجية السياسية والعسكرية تتغير للأبد، فإدخال عنصر الاقتصاد بهذه القوة جعلهم ينظرون إلينا نظرة مختلفة، بعد أن كانوا يظنون أن مصر والمحيط العربي لا يمكنهما أن يهزما إسرائيل.
إسرائيل اكتشفت أنها قابلة للهزيمة، وقد هزمت بالفعل، وهزم معها الغرب الذي كان يدعمها، فقرر في تلك اللحظة أن يغير من مفهومه نحو الشرق الأوسط، ويتحرك بإيجابية، ويقدر حاجة العرب إلى التحرر الواجب والمشروع. إن الدروس المستفادة من تجربة النصر تؤكد أن العرب في أوقات الشدة لن يقبلوا القسمة على وجهات النظر، ولن يسمحوا بإزاحة خرائطهم، فهم محصنون ضد الإقامة تحت أي تهديد.



شريط الأخبار