أ.د. محمّد عبد الرّحيم سلطان العلماء
بين الجمال والجلال تقع القسمة المنطقية للنفوس الإنسانية، وأما النفوس المكتملة فهي السعيدة بالجمع بينهما، وفي لحظةٍ ما يتجلى الإنسان على العالم بإحساس جمالي لطيف يسجل فيه لحظة شعورية يقتنص فيها مقطعاً جمالياً خاطفاً من هذه الحياة، ويكتبه بلغة رقيقة تلامس أعمق نقطة في الوجدان الإنساني الذي يهتز للجمال وينفعل به.
وربما كان الشعراء وأصحاب المواهب الفنية الأخرى هم من أقدر الناس على رسم الصورة الجمالية لأي فكرة تخطر في بالهم وبلغة مميزة تلفت النظر وتؤثر في القارئ والسامع والمتذوق على حدٍ سواء.
وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، هو من هؤلاء المتذوقين الكبار لمعاني الجمال، فهو ينتمي في تكوينه العميق إلى عالم الشعر، ويقف على قمة شامخة من قممه العالية، وهو ذو بصيرة نافذة في توظيف الجمال في كل شيءٍ ينهض بأعباء تشكيله وإبرازه إلى حيز الوجود، وربما ليس من المبالغة في شيء أن يقال:
إن العنصر الجمالي في جميع المشاريع والاختيارات التي أنجزها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هو من أبرز عناصر الجاذبية فيما يختاره صاحب السمو، حتى الخيل التي يختارها تكون في قمة الجاذبية الجمالية فضلاً عن قوتها الجلالية، فلأجل هذا أصبح المطلب الجماليُ واحداً من أهم عناصر التفكير والإبداع في شخصية صاحب السمو في مسيرته الرائعة في بناء الوطن والإنسان.
تأسيساً على ما تقدم، فقد جاء الدرس الحادي عشر من كتاب «علمتني الحياة» بعنوان «الجمال سيخلص العالم»، حيث أبدع صاحب السمو في المقارنة بين الجمال الفني كما يتجلى في اللوحات والرسومات، وبين الجمال الفني كما يتجلى على أرض الواقع.
ففي القسم الأول يمكن قياس جمال أي لوحة فنية من خلال جهتين اثنتين: جهة حسية تتمثل في جمال الألوان ودقة الأشكال وروعة التفاصيل التي تراها العين، وجهة معنوية تتمثل في الرسالة والمغزى والفكرة التي توحي بها اللوحة الفنية.
أما الجمال الواقعي المتجسد في شكل مدينةٍ عمرانية جميلة فهناك ثلاث جهات يمكن قياس جمال أي مدينة من خلال تحققها على أكمل وجه وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بقوله:
«من جهة جمال عمرانها، حيث روعة المعمار، وجمالية البناء، ودقة التفاصيل ونظافة المدينة والشوارع، واتساق كل ذلك ضمن لوحة فنية جميلة، ومن جهة سياساتها وقوانينها، حيث العدالة والشفافية، والمصداقية والنظام، ومن جهة أخلاقها، حيث الرحمة والتسامح والتعاون، وحب الخير والمحبة»
في هذا المقطع من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إضافة معنوية لمفهوم الجمال ربما لم يكن مسبوقاً إليها، فالجمال الحسي قد وقع الاتفاق عليه بين جميع نقاد الفن الذين يشترطون روعة الجمال في أي لوحة فنية، لكن الجمال المعنوي الذي أضافه صاحب السمو في الجهتين الثانية والثالثة فهو إضافة مبتكرة ربما لا يتفطن إليها نقاد الفن والجمال الذين يعملون في النقد المعماري.
فالتركيز يكون دائماً على المعطيات الحسية للفن، لكن هذه اللفتة الأخلاقية الجمالية من لدن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هي من أروع ما يمكن إضافته إلى معايير التقويم الجمالي للمدن وفن العمارة.
وهذا الذي قاله صاحب السمو إنما كان تمهيداً للفكرة التالية وهي أن مدينة دبي التي رعاها صاحب السمو تأسيساً وتطويراً وإبداعاً إنما كانت لوحته الفنية الكبرى التي قدمها لهذا العالم الذي يحتفي بالجمال، ويرى فيه دلالة على التفرد الحضاري، وهو ما اشتغل عليه صاحب السمو عبر ستة عقودٍ من العمل والإبداع حتى تم تشكيل أيقونة جمالية اسمها دبي تجمع بين المعايير الثلاثة التي ذكرها صاحب السمو، وتمتاز بها عن غيرها من مدن العالم.
يقول صاحب السمو:«عبر ستة عقود جمعت الكثير من اللوحات والأعمال الفنية لأني أحب الجمال، وحاولت رسم لوحة واقعية واحدة اسمها: دبي»؛ لتأتي بعد هذه الكلمات روعة التفاصيل التي أبدع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في صياغتها بلغة جمالية قال فيها:
«أردتها مدينة جميلة بكل تفاصيلها، حيث الشوارع الواسعة، والحدائق البديعة، والشواطئ الجميلة، والمباني الفريدة، ومحطات القطار التي تشبه مركبات الفضاء، والجزر الساحرة، والأسواق الرائعة، وغيرها» فهذا هو البُعد الجمالي العمراني الحسي من مدينة دبي حيث رسم لها صاحب السمو هذه اللوحة الجميلة الرائعة التفاصيل لينتقل بعد ذلك إلى المعيار التنظيمي والقانوني في جمال دبي، حيث يقول:
«أردتها جميلة بأنظمتها وقوانينها، حيث العدالة للجميع، والمصداقية في كل السياسات، والنظام أساس حركة الحياة فيها» وأما معيارها الجمالي الأخلاقي فقد عبر عنه صاحب السمو بقوله: «وأردتها جميلة بأخلاقها وقيمها، حيث الرحمة في جميع تعاملاتها، والتسامح يجمع قلوب كل من عليها، والعطاء وحب الخير جزءٌ من تكوينها ونهجها وأعمالها الدائمة».
إن اكتمال هذه اللوحة الفنية البديعة لمدينة دبي جعل منها نموذجاً مُلهِماً للعالم حيث يتمنى الإنسان أن يعيش فيها ولا يكتفي بمجرد زيارتها، كما يتمنى تشكيل حياةٍ جديدةٍ في هذه المدينة التي تلبي أروع المطالب الإنسانية الجمالية والعمرانية والقانونية بحيث أصبح جمالها قيمةً عُليا وليس مجرد ترفٍ فكريٍ أو ثقافيٍ أو عمراني.
وهذا إنجازٌ غير مسبوق يُذكِرُنا بالمدن الجميلة التي تحمل إيحاءً خاصاً يمنح البُعد الجمالي قيمة فريدة في تحفيز الإنسان، وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بقوله:
«البيئة الجميلة تحفز الخيال، وتُطلق الإبداع، وتزيد الإنتاج، وتحقق الاتزان الداخلي والخارجي للإنسان» لأن الجمال العمراني والأخلاقي – والكلام لصاحب السمو – هو أساسُ أي بيئة تسعى لخلق الانسجام والسلام للإنسان، لأن فطرة الإنسان تحب الجمال وتنجذب إليه.
وفي هذا السياق من الإحساس الرائع بقيمة الجمال يستلهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الحديث النبوي الشريف «إن الله جميلٌ يحب الجمال» ليضيء المحتوى الرائع لهذا الحديث حين يقول:
«جميلٌ في صفاته وذاته وأفعاله وأسمائه، ويحبُ الجمال في الخلق والأخلاق والأقوال والأعمال، وعندما نسعى لخلق بيئةٍ جميلة فإننا نحقق مراد الله تعالى في عمارة هذه الأرض بما يُحِب».
وبلمحة فلسفية يختتم صاحب السمو هذا الدرس العميق بقوله: «يقول أحد الفلاسفة: الجمال سيخلص العالم»، ويؤكد صاحب السمو صواب هذه الفكرة بقوله: «نعم الجمال سيخلص العالم»، ثم يعود إلى النموذج الجمالي الفريد المتمثل في مدينة دبي .
حيث يراهن صاحب السمو على أن هذه المدينة ستكون نموذجاً يُحتذى في الأمل والرحمة والتسامح والتعايش في مواجهة عالم مليءٍ بالقُبح والكراهية والصراعات والعنف واليأس، لتبقى لوحة دبي هي الأجمل وتنطق حروفها بكلماتٍ متوهجة ختم بها صاحب السمو هذا الدرس حين قال: «نعم، الجمال يقترن بخلاص البشر، ويقترن بالسلام داخل كل إنسان، ويقترن بالحياة الأفضل التي يتمناها كل مجتمع»، ليوافق مرة أخرى تلك اللمحة الفلسفية الرائعة: «نعم، الجمال سيخلص العالم».