جمال الكشكي
لم تكن مجرد سفينة صغيرة، هي رسالة تقول بأن العالم من دون اتفاق سيأتي في لحظة ويتحالف من أجل الحقيقة. شاهد العالم كله ما جرى من قرصنة للسفينة «مادلين» في عرض البحر وفي المياه الدولية، وهي السفينة التي حملت شخصيات من كل العالم، أرادت أن تعبر عن الغضب مما يجرى تجاه أهالي غزة، من إبادة وجرائم مروعة.
إسرائيل كعادتها قامت بقرصنة السفينة، وهددت باعتقال من عليها، بمن فيهم بعض أعضاء البرلمان الأوروبي، اللافت للنظر أن أوروبا ظلت تمد إسرائيل بالسلاح والعتاد، والبضائع طوال العامين السابقين، وتستخدم قوة الدبلوماسية في الأمم المتحدة، ومع ذلك لم يشفع لأوروبا هذا الموقف، وقامت إسرائيل باعتقال واحتجاز أفراد السفينة «مادلين».
مشهد السفينة، سيظل عالقاً في أذهان الرأي العام الأوروبي الذي بدا خلال الفترات الماضية، يتحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطين، على العكس مما كان يظن بنيامين نتنياهو، أي أنه فشل في الحرب والسلام، وبات عبئاً على حلفائه الأوروبيين، فنجد إسبانيا والنرويج، وأيرلندا، تسارع جميعاً إلى الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة، ثم تتلوها دول أخرى، أبرزها فرنسا التي دعت على لسان رئيسها، إلى ضرورة الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، وإلى مؤتمر يعقد على الأراضي الأمريكية من أجل هذا الهدف.
رأينا بريطانيا صاحبة وعد بلفور، وهي تعيد النظر في ضرورة الاعتراف بدولة فلسطينية، وتضاف كندا، إلى الدولتين السابقتين، في تصاعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أي أن نتنياهو، خسر استراتيجياً سرديته التي آمن بها الغرب طويلاً، فإذا به يهشم ويكسر ويمزق هذه السردية، التي تحولت إلى أوهام في أعين الغرب الأوروبي.
في أحيان كثيرة، تكتشف أن القوة محض وهم كبير، وفور أن تقترب منها تتهاوى أو تتراجع، ما يحدث الآن من حولنا، يؤكد أن مشروع نتنياهو في نهايته، وأنه يستقطع الوقت فقط، وأننا أمام عالم جديد، يعيد قراءة السردية بقليل من العدالة، هذه العدالة قد تنمو وتكبر، وتضع أختامها على مشهد جديد، لن يعترف بسياسة القوة والقتل والإبادة للأبد.
إن الرسالة المستمرة من قبل نتنياهو إلى المنطقة، هي مزيد من إراقة الدماء والإبادة، وارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، وهي الرسالة الدموية التي يتحصن بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، وحكومته المتطرفة، بهدف صناعة إسرائيل الثابتة، وتأسيس خريطة جديدة، تضاف إلى خريطة ديفيد بن غوريون، فالحرب أبعد من غزة.
نتنياهو يتوق إلى الاشتباك في أوسع جغرافيا ممكنة، فهو لديه أحلام توسعية يعمل عليها ليل نهار، تنطلق من مخططات، واستراتيجيات إسرائيلية قديمة، ويرى أن وقتها قد حان، مستغلاً أحداث السابع من أكتوبر 2023، كشرارة، تشعل الحرائق في منطقة الشرق الأوسط، وواصل مشروعه لقضم الخرائط المستقرة، والصدام مع الجغرافيا من أجل إعادة رسم خريطة إسرائيلية، لا تتوقف حسب مزاعمه عند الجغرافيا الفلسطينية، فالقصة أبعد من فلسطين، فقد عايشنا طوال العامين الماضيين معركته في جنوب لبنان، ثم في لبنان، وفي سوريا، واليمن، والعراق، عبر أمريكا، ثم إيران من أجل استعراض قوته، وتوسيع نفوذه وخرائطه.
تصريحات نتنياهو حول قيادته للشرق الأوسط، وهمية تصطدم بقوة الجغرافيا، وعمق التاريخ، فهو بالكاد يستطيع الحفاظ على وجود إسرائيل ضمن سلام عادل، يقوم على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الحد الأدنى الذي يرتضيه سكان منطقة الشرق الأوسط..
الحرب في قطاع غزة، ستتوقف حتماً مهما تكن الأوضاع، وستخلف جرحاً غائراً في ذاكرة نتنياهو ستلاحقه في المحاكم الدولية، وستطارده في المحافل الدولية، حتى داخل إسرائيل، عندما يستفيق الإسرائيليون ويجدون أنفسهم في محيط عدائي إقليمياً ودولياً. التظاهرات التي تخرج يومياً في عواصم العالم ضد الإبادة الجماعية، تؤكد أن صورة إسرائيل لن تصمد كثيراً، ولن يصدق أحد سرديتها عن المظالم.
هذه اللحظات التي يعتقد فيها نتنياهو، بأنه يمتلك أوراق القوة والنفوذ، هي نفسها اللحظات التي تكشف عن هشاشة أحلامه وأكاذيب توسعاته، وانفضاض حلفائه من حوله، وأن الفكرة التي ترى إسرائيل نقطة قوة لأمريكا، هي أيضاً الفكرة التي تؤكد أن إسرائيل باتت نقطة الضعف الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية. أخيراً أقول إن لكل أزمة نهاية طالما ظلت البشرية تقدم لنا «مادلين» وأخواتها.