منى خليفة الحمودي
«لا أعتقد أننا صِرنا عُمياناً، نحن عميان أصلاً لكننا نرى..!»، كانت لحظة فارقة عندما ختم جوزيه ساراماغو روايته «العمى» بهذه العبارة، ليعلن انهيار الثوابت وما نعرفه أصلاً، حيث لا يبدأ الظلام بانطفاء الضوء بل بانهيار القدرة على التمييز.وعندما يفقد البياض الساطع قدرته على تعرية الواقع يبدأ بابتلاع التفاصيل، وهنا يطرح ساراماغو مفارقة مقلقة وهي أنه حين تغدو الرؤية فعلاً بصرياً خالصاً بلا أثر داخلي، لا يصبح العمى فقداناً لحاسة بل تعبيراً عن مجتمع فقد بصيرته، يرى كل شيء، لكنه لم يعد يتساءل..!
فالعمى الذي يجتاح المدينة في الرواية ليس غريباً، بل هو تعبير مجازي عن حالة من التواطؤ المعرفي والأخلاقي، يعكس كارثة قد وقعت سلفاً حين توقفوا عن رؤية الآخر كذات إنسانية، وحين انهار الرابط الذي يجعل من الرؤية موقفاً أخلاقياً لا فعلاً محايداً.
وفي السياق الفلسفي، يذكرنا المفكر الفرنسي بول ريكور بأن الرؤية لا تكفي لتكوين الوعي، فالمعرفة الحقيقية تمرّ عبر التأويل، والصورة مهما كانت واضحة، لا تخلق فهماً إلا إذا ارتبطت بموقف أخلاقي يدفع نحو الفعل، وفي زمنٍ يُغرقنا بالمشاهد، تضعف القدرة على الحكم، وهذا ما يجعل العمى حالة يومية وشرطاً اجتماعياً جديداً.
وتتجلى هذه الحالة في واقعنا الاجتماعي بطرق صامتة وخطيرة، ورغم كثرة الأمثلة والشواهد، إلا أن الخلافات الأسرية التي تتحول إلى عنف نفسي مزمن، تُدار غالباً بالصمت والتبرير.
وتُمرّر في إطار «الخصوصية العائلية» تعتبر مثالاً حياً للعمى الحديث، كامرأة تتعرض للتهديد العاطفي، أو للإهانة أمام أطفالها، أو للإقصاء داخل بيتها، دون أن يُعَدّ ذلك مشكلة تستدعي الوقوف، الكل يرى، الكل يشعر، لكن العمى يغلف البصيرة، لا لأن الحقيقة غائبة، بل لأن مواجهتها تهز بنية مستقرة..!
ولا يُرتكب العنف دوماً بنيّة شريرة أو قسوة ظاهرة، بل يحدث أحياناً لأن المجتمع سمح له بالتكرار دون مساءلة، فحين يصبح الخلل جزءاً من المألوف، ويتحوّل الصمت إلى قاعدة، يدخل العنف في نسيج الحياة اليومية بوصفه سلوكاً غير مفكَّر فيه، لا لأنه خفي، بل لأنه اعتُبر من المسلَّمات..
وتشير تقديرات خبراء اجتماعيين إلى أن نسبة «العُسر النفسي غير المرئي» داخل العلاقات الأسرية في منطقة الخليج العربي مرتفعة نسبياً، لكنها تظل من أقل أنواع العنف المبلغ عنها، ويعود ذلك إلى ثقافة الصمت والخوف من الوصمة أو فقدان التماسك الظاهري، وهذا ما يجعل المجتمعات ترى دون أن تُبصر.
وفي زمن تتراجع فيه القدرة على التأويل، لم نعد بحاجة إلى مزيد من الضوء، بل إلى استعادة وظيفة البصيرة، فالرؤية التي لا تُحرّك والمعرفة التي لا تدفع نحو الفعل، كلاهما يتحولان إلى غشاوة ناعمة، نرتديها كل صباح دون أن نشعر بثقلها، هكذا يتحوّل العمى إلى حالة جمعية لا تُرى بالعين، بل تُقاس بدرجة الاستسلام لما هو مألوف..، مألوف إلى حدّ الخلل..!
وحين يصبح العرف أقوى من الأخلاق، والإلف أسبق من الفهم، يُعلّق الوعي بين صورتين: صورة الواقع كما نراه، وصورة الذات كما نُريد أن نحافظ عليها، وكلما تعارضتا، اخترنا طمس الأولى باسم الاستقرار، وهنا لا تُولد التسوية، بل عمى متواطئ، عمى تراكمي يُعاد إنتاجه عبر التبرير، والصمت، والتعوّد، وهكذا نفقد تدريجياً حِسنا بالعدالة وبالكرامة.
فالبصيرة ليست ترفاً، بل شرط للبقاء الإنساني، وأن تبصر في زمن العمى يعني أن تمتلك ضميراً أكثر يقظة، فلا يكفي أن نعرف، بل أن نواجه، لا يكفي أن نكشف السِتار، بل أن نرى، ثم نتحمّل مسؤولية ما نراه..!