محمد خالد الأزعر
خمسة أعوام مضت على خروج بريطانيا من عباءة الاتحاد الأوروبي، فيما عرف بـ«البريكسيت».. إلا أن التناظر الداخلي لم ينقطع بشأن جدوى هذه الخطوة بالنسبة للمصالح البريطانية العليا.خلال هذه الفترة أطلت شواهد على أن الاستفتاء الشعبي الذي جرى بالخصوص في 2016/06/23، وانتهى بالتصويت لصالح البريكسيت بنسبة طفيفة (51.9%)، قد تأثر بحملات دعائية وإعلامية قوية ضد العمل الاتحادي اضطلع بها أصحاب مصالح خاصة، لاستمالة الرأي العام نحو المغادرة.
وفي ذلك السياق الخبيث، التبست قضية الخروج على الكثيرين، ولم يتم التعريف النزيه بتداعياتها السلبية، التي يعنينا منها هنا ما يتعلق بملف الهجرة واللجوء.
يقال إن البريطانيين لديهم ميل شبه فطري للانطواء والتوجس من الغرباء عموماً.
ويشير ديفيد غلوفر، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة ساوثهامبتون، في دراسة استقصائية تاريخية معمقة له حول الهجرة في إنجلترا، إلى أن «التعامل مع المهاجرين وطالبي اللجوء لم يكن في أي وقت منصفاً أو خالياً من التمييز العرقي».
ويبدو أن المرجفين بالتجربة الاتحادية الأوروبية قد اعتمدوا على هذا المعطى، وأضافوا إليه جرعة من التذكير بزمن العظمة البريطانية، المتفردة بزعمهم، في الترويج لخطابهم الانعزالي.. حتى إنهم بلوروا ما يطلق عليه «رهاب الأجانب»، الذي استهدفوا به كلاً من اللاجئين والمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين على حد سواء!
غداة الاستفتاء، لم يلبث البريطانيون إلا قليلاً حتى راحوا يعاينون الحقائق الموضوعية والمستجدات المفروضة بحكم الزمن، التي لم تكن في عمومها ظهيراً لفكرة البريكسيت.. اكتشفوا مثلاً أن وجود نحو ثلاثة ملايين أوروبي في دولتهم، لا يمثل نقطة ضعف لاقتصاداتهم، بل إنه من منتجات قوانين العرض والطلب الطبيعية، وأن إجلاءهم سيخلف انعكاسات اقتصادية بغيضة.. وقل مثل ذلك عن تبين الأضرار المترتبة على التجهم والتعنت، في وجه المهاجرين واللاجئين من غير الرحاب القارية، ومنها أن بريطانيا بحاجة إلى زهاء 200 ألف مهاجر سنوياً، لتفادى نتائج كارثية ستضرب سوق العمالة عقب البريكسيت.. نظراً لارتفاع معدل شيخوخة المواطنين البريطانيين، وعجزهم في بعض القطاعات عن الوفاء بسلامة دواليب الإنتاج.
تجلت هذه الحقائق بوضوح أثناء جائحة كورونا.. إذ ثبت أن قطاعات، من قبيل الخدمة الطبية والرعاية الاجتماعية والنقل والبناء والتشييد والصحة العامة، كانت على وشك الانهيار التام، لولا جهود الكوادر ذات الصلة، القادمين من أصول غير بريطانية.
وقتذاك اعترفت الحكومة بالدور النبيل لهؤلاء «الغرباء»، واضطرت لمنحهم التأشيرات المجانية، وتحجيم كثير من القيود المفروضة عليهم.
المدهش أن التعامل الرقيق مع هذه الكوادر، والثناء عليهم، كان أقرب إلى السلوك الانتهازي، كونه اختفى بمجرد زوال الجائحة، وأخلى مكانه للجدل القديم بشأن الغرباء.. وهو اليوم أحد أبرز نقاط الشد والجذب في الأوساط السياسية البريطانية، إلى درجة تهديد استقرار حكومة كير ستارمر العمالية.
المشهد بإيجاز أن رياح تيار التطرف القومي الشعبوي، الذي صعد أوروبياً في أكثر من موضع، طالت الرحاب البريطانية المؤهلة أصلاً للتجاوب مع موجة كهذه، وبدلاً من تفهم عبرتي البريكسيت والجائحة، عادت قوى الانطواء في هذه الرحاب سيرتها التقليدية القديمة، حيث المبالغة في الانكماش على الذات القومية والتعصب لها، الذي يرقى إلى الشوفينية الفجة.
بشيء من التعجب، يتساءل البريطانيون من أنصار التيار الاتحادي عن أسباب تجاهل هؤلاء المتعصبين للوقائع المنظورة، التي أكدت أن خسائر عملية البريكسيت وطرد الأجانب هي أكبر من عوائدها، ويسخرون من انتهازية رئيس الوزراء ستارمر، الذي نكص على عقبيه، وانقلب من محامٍ مدافع عن حقوق المهاجرين واللاجئين، منذ بضع سنين، إلى داعية للتضييق عليهم وفرض شروط قاسية لا تسمح للكثيرين منهم بالإقامة المريحة أو التوظف، وتسوقهم طوعاً أو كرهاً إلى الرحيل، رغم ثبوت الحاجة إليهم!
القصد هنا أن المناكفات الحزبية، وموجة كراهية الأجانب التي يثيرها بالذات حزب المحافظين الراسخ وحزب الإصلاح (ريفورم) الصاعد، جعلت فئة من كبار رموز السياسة والمتنفذين الحاليين، بما فيهم رئيس الوزراء، يتنكرون لمعتقداتهم وتوجهاتهم بزعم أنهم لا يريدون تحول بريطانيا إلى جزيرة من الغرباء.. وبلغت مزايداتهم بالخصوص حد التلويح بالخروج من «الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان»، المقرة منذ العام 1950، التي ما زالت تقي المهاجرين واللاجئين من تشدد الأطر القانونية القومية.
نحسب في كل حال أن متغيرات العصر الصلبة، الاقتصادية منها خاصة، توحي بأن ما بين البريطانيين و«الغرباء» منافع متبادلة، وأن إنكار الدولة البريطانية لهذه الحالة، سيؤول بها إلى تفاقم أزمات تشغيل في الداخل، وضعف في المكانة التنافسية التجارية قارياً وعالمياً.