عندما تتكلم الأرض لغة الحرب!

رشاد أبو داود
لا أنسب ما يعبّر عن عالم اليوم من القول المتداول منذ زمن «أوقفوا هذه الأرض أريد أن أنزل»، ولا يعرف من أطلقه. البعض ينسبه إلى بريشت وأحياناً إلى كافكا، وثمة من يقول إن محمود درويش استخدم معناه في إحدى قصائده. أياً كان قائله فإنه يعني الاغتراب والاختناق من واقع العالم.
حرب في فلسطين، حرب في السودان، حرب في لبنان، حرب في سوريا، كل هذا في منطقتنا العربية فقط. ليس في منطقتنا وحسب بل ثمة حروب وأشباه حروب منها ما تم إطفاؤه بالمفاوضات، ربما مؤقتاً في مناطق عدة بالعالم.
حرب أوكرانيا التي توشك على دخول عامها الرابع، حرب إيران وإسرائيل، حرب تايلاند وكمبوديا، حرب الهند وباكستان، حرب داخلية في الكونغو انضمت إليها رواندا، صراع في مالي يهدد استقرار دول الساحل الأفريقي. حروب متزامنة لكأن الدول قررت أن تتكلم بلغة النار والدمار.

اليوم تقرع طبول الحرب في فنزويلا كمقدمة لحروب قد تمتد إلى دول أمريكا اللاتينية. لقد أصبح العالم أكثر وحشية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين وأصبحت الصراعات سمة مشتركة للنظام الدولي.
ولم تعد الحروب تُعلن بل تتسرب، تبدأ باشتباك، ثم تصبح اعتيادية، ثم تتحول إلى خبر يومي بلا مبالاة وتصبح أعداد الضحايا من قتلى وجرحى وثكالى وأيتام لكأنهم مجرد أرقام جامدة لا بشراً كانوا أحياء يأكلون ويشربون ويتمتعون بالحياة.

بعد الحرب العالمية واتفاق الدول المنتصرة على تشكل النظام العالمي، توقفت الحرب لكن الصراع بين هذه الدول استمر واتخذ شكلاً آخر.
الكتلة الغربية بزعامة أمريكا والشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي، وقيل إن الأرض كانت متزنة لأنها تقف على قرنين، الأمريكي وحلفاؤه والسوفيتي والدول السائرة في فلكه، لكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي انكسر أحد القرنين فاهتزت الأرض وفقدت اتزانها وتوازنها.

بعد الانهيار السوفييتي، عاش العالم وهْم الاستقرار الأمريكي، حيث لعبت واشنطن دور الضامن النهائي للتوازنات. اليوم يتآكل هذا الدور بفعل الانكفاء الداخلي الأمريكي وصعود قوى دولية منافسة كروسيا والصين دون وجود بديل فعلي.
كان للعالم مركز ثقل، قوة تفرض النظام، أو على الأقل توهم الآخرين بأنه موجود، اليوم يتداعى هذا الوهم، القوة الكبرى مترددة وطامعة، تعلن أنها أولاً، وتغلب مصالحها على أي شيء آخر، القوى الصاعدة غاضبة، والدول الصغيرة تترك لمصيرها ولأطماع من هو أقوى.
. وهذا ما يفسر التعبير المتناقض الغريب «السلام بالقوة» الذي ابتدعه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وما يمارسه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حرب أوكرانيا.

ولو أن النوايا صادقة لكان الشعار ليس «سلام القوة» بل «قوة السلام» التي تلغي الحروب وتجعل من العالم قرية صغيرة سكانها متعاونون محبون إنسانيون.

كما أراد الفيلسوف الكندي، مارشال ماكلوهان، صاحب فكرة «العالم القرية» في ستينيات القرن الماضي قاصداً وسائل الإعلام الحديثة من التلفزيون ولاحقاً الإنترنت ووسائل التواصل.

في أجواء تؤشر على انهيار النظام العالمي وسعي الصين وروسيا وعدة دول ومفكرين إلى نظام عالمي جديد، تنمو الحروب كما تنمو الأعشاب البرية بلا تخطيط وبلا نهاية قريبة.. وتصبح الحروب وظيفة ومهنة تبيع السلاح للدول والسوق السوداء وتدر مكاسب هائلة لمصنعي الأسلحة.
الملفت والصادم اليوم ليس كثرة الضحايا، بل اختلاف طريقة عدهم.. ضحايا يسمون أرقاماً، وآخرون يسمون أخباراً عاجلة، وغيرهم يمحون من اللغة كأنهم لم يكونوا.

القانون الدولي يتلعثم، والأخلاق تتلعثم أكثر، والمعايير تمشي على عكاز المصالح، ما يدان في مكان، يبرر في مكان آخر، وما يعد جريمة اليوم، قد يصبح ضرورة أمنية غداً.



شريط الأخبار