مستقبل العراق في أطر شرق أوسط جديد

د. محمد عاكف جمال
أخيراً صادقت المحكمة الاتحادية العليا في العراق على نتائج انتخابات الـ11 من نوفمبر، التي رسمت خريطة النفوذ في مجلس النواب العراقي السادس، التي سترسم بدورها، كما هو معمول به في الدول الديمقراطية، معالم السياسة العراقية على مدى السنوات الأربع المقبلة. فتح هذا الإعلان المجال واسعاً للتكهنات حول مسارات هذه النتائج وفق الاستحقاقات الزمنية المنصوص عليها دستورياً، التي تتعلق بانتخاب رئيس المجلس النيابي ونائبيه ثم انتخاب رئيس الجمهورية، وأخيراً انتخاب الرئيس الأهم لمنصب رئيس مجلس الوزراء، وتداعياتها على مستقبل العراق سياسياً وأمنياً، وما يرتبط بهذين المحورين من قضايا لا تقتصر تأثيراتها على الحاضر، بل تمتد بعيداً إلى المستقبل.
تميّزت هذه الانتخابات عن سابقاتها بارتفاع نسبة المشاركة فيها على الرغم من مقاطعة التيار الصدري وكثافة الدعوات لمقاطعتها لهذا السبب أو ذاك، فقد تجاوزت المشاركة فيها حاجز 55 % من عدد الذين جددوا بطاقاتهم الانتخابية وليس ممن لهم الحق في الاقتراع، وهو ما سبب خلافات حول ذلك بين من أشاد بنتائجها وبين من تحفظ على ذلك في أطر تقويم النتائج هذه في زرع الاستقرار الأمني في المنطقة، فالعراق كان ولا يزال، بالرغم من تراجع دوره في الآونة الأخيرة، أبرز الفاعلين، سلباً أو إيجاباً، في مواقف أو ساحات الحياة السياسية بهذه المنطقة.
حظيت نتائج هذه الانتخابات بأقصى درجات الاهتمام من لدن معظم المراقبين المسكونين بهاجس القلق على مستقبل الوضع الأمني في البلاد في ظل ظروف تسمح تداعياتها بتعزيز عوامل الذهاب إلى اللااستقرار فيه وفي المنطقة عموماً.
من الصعب جداً الادعاء أن هذه الانتخابات لم تخلُ من عوامل أخلّت بموضوعيتها، فذلك لا يتفق مع الواقع المنظور، فتوظيف المال السياسي الذي لم يستخدم بهذه القوة في أي من الانتخابات السابقة شاهد لا يمكن إنكار دوره لإحداث ظواهر لم يكن من المتوقع أن تكون غائبة فحسب، بل تحولت إلى حضور قوي أسهم في ارتفاع نسبة المشاركين بها من جهة، وعزز معالم المشهد السياسي العراقي المثير للقلق من جهة أخرى.
هناك الكثير من المحاور المثيرة للجدل والاهتمام في الوقت نفسه تتعلق بالدور الذي أدته المفوضية المستقلة للانتخابات إزاء العوامل التي تحرص على إبقاء معالم ما هو قائم من توازنات، بل تعزيز ديمومتها، فهذه المفوضية لم يسجَّل لها موقف يذكر في التصدي لظاهرة شراء الأصوات على الرغم من شيوعها وعلانية انتشارها وتداول سعر صرف الصوت الانتخابي في هذه المحافظة أو تلك، كما لم يكن لها موقف يذكر للتصدي لدور الفصائل المسلحة التي تفرض غطاء لا يخفي ما له من نفوذ على رسم خرائط النهايات الانتخابية.
إلا أنّ ما يحظى باهتمامنا في هذا السياق هي ظاهرة التراجع الكبير للتيار المدني الذي لا يتسلح، بل بالأحرى لا يتاجر، بهويات الماضي لبناء المستقبل، فهو بفصائله المتعددة التي لها أهداف متباينة وأساليب متنوعة في وضعها موضع التنفيذ تشترك في هدف واحد، عدم تغليب أي هوية ثانوية على الهوية الرئيسة؛ هوية الانتماء للعراق.
عززت نتائج الانتخابات ما كان متوقعاً كما في سابقاتها قوة ومناعة الحصانة التي يتمتع بها الفساد في الواقع السياسي العراقي، فقد أعادت القوى السياسية التي جاءت إلى سدة الحكم في العام 2003 حضورها إلى المشهد بقوة أكبر من خلال مفاجآت مهمة تستوجب التوقف طويلاً عند بعضها. لم يكن متوقعاً في أطر التحشيد السياسي لمبادئ الشرق الأوسط الجديد أن تفوز حركات سياسية تمتلك ميليشيات مسلحة بعدد كبير من المقاعد النيابية تجاوزت العشرات، ما قد يدفعها وفق السياقات المعمول بها إلى المطالبة بوزارات سيادية في الحكومة الجديدة، ويدخلها ويدخل العراق جرّاء ذلك في مواجهات مع الجانب الأمريكي الذي وضع «فيتو» قوياً على اشتراك هؤلاء في أي دور في عملية تشكيل الحكومة الجديدة.



شريط الأخبار