د. موزة غباش
تبرز في دولة الإمارات أهمية النصوص والطقوس التراثية كركيزة أساسية لتعزيز الهوية الوطنية والثقافية. وفي وقت يتشابك الماضي العريق مع حاضر متطور وسريع، تصبح الحاجة ملحة إلى إحياء كافة النصوص والطقوس الشعبية التي يمكن رؤيتها كأنظمة حية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والزمن، وبين الجماعة وأرضها، وبين الأجيال.تمثل النصوص والطقوس التراثية الإماراتية «ذاكرة جماعية» تعكس القيم الروحية والأخلاقية التي شكلت المجتمع عبر القرون. كما هو الحال مع النصوص التاريخية التي تنقل القيم عبر الأجيال، يمكن للحكايات الشعبية والقصائد النبطية أن تلعب دوراً حيوياً. فهذه النصوص تحمل روح الأسلاف والأجداد وتجاربهم، ما يجعلها وسيلة لفهم الذات والانتماء. لكننا نلاحظ أيضاً أن الإرث الثقافي العالمي، وجزءاً من إرثنا الثقافي الإماراتي، يتعرض اليوم لخطر الاندثار بسبب التغيرات السريعة، وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والباحثين لتحمل مسؤولية الحفاظ على هذه النصوص وإعادة تقديمها بطرق عصرية تجذب الأجيال الجديدة.
الطقوس التراثية الإماراتية تعكس فلسفة عميقة حول العلاقة بين الإنسان والكون. وتهدف إلى تحقيق الانسجام مع العالم، ويمكن النظر إليها كوسيلة لتحقيق التوازن بين الفرد ومحيطه الاجتماعي والبيئي. على سبيل المثال، طقوس الضيافة تعكس قيمة الكرم كجزء من نظام اجتماعي يعزز الوحدة والتضامن. إن إعادة إحياء هذه الطقوس في مختلف المجالات، سواء في المدارس أو الفعاليات الثقافية أو المؤسسات الحكومية، يمكن أن يعزز هذه القيم ويجعلها جزءاً من الحياة اليومية.
الرموز التراثية الإماراتية، تحمل معاني عميقة تتجاوز الزمن والمادة. النخلة مثلاً، هي رمز للصمود والبركة، وهي مرتبطة بالبيئة الإماراتية التي تشكل جزءاً من هويتنا، لذلك يصبح لزاماً علينا إعادة تقديم هذه الرموز في الفنون البصرية والأدب والتصميم الحديث على نحو يجعلها أكثر قرباً للأجيال الجديدة. قلنا سابقاً، ونعيد للتأكيد إن التراث الثقافي الإماراتي يجب أن يصبح أداة للمقاومة الثقافية ضد التأثيرات الخارجية. بعض الطقوس قد تبدو للبعض مجرد خرافات، لكنها تعكس فلسفة عميقة حول علاقة الإنسان الإماراتي مع الطبيعة والبيئة. والتركيز على إعادة تقديم هذه الطقوس بطريقة علمية وعقلانية بحيث يمكن جعلها أكثر قبولاً لدى الأجيال الجديدة، وفي الوقت نفسه يحافظ على خصوصيتها.
أما الطب الشعبي، فهو حوارٌ بين الحدس والعلم، وبين التجربة والمعرفة. استخدام «أوراق السدر» و«البخور» كعلاجٍ تقليدي، وكطقسٍ يعيد الشعور بالسيطرة في مواجهة الضغوط النفسية. هذا الجانب من التراث يعكس كيف يمكن للثقافة الشعبية أن تسهم في تعزيز الصحة النفسية، ما يجعلها جزءاً من الطب التكاملي الحديث. هنا، يجب على المؤسسات الصحية والثقافية أن تعمل معاً لإعادة اكتشاف هذه الممارسات ودمجها في النظم الصحية المعاصرة.
الأمثال الشعبية تمثل لغةً فلسفيةً تعكس تجارب الأجيال وتقديم دروس حياتية عميقة. في الإمارات، حيث تنقل الأمثال قيم الكرم والتعاون، يجب أن يكون هناك جهد لتوثيقها وإعادة تقديمها بطرق عصرية تجذب الشباب.
الصناعات التقليدية، مثل السدو والنسيج والحرف اليدوية، تعكس العلاقة بين الإنسان وأرضه، وبين الجمال والوظيفة. إعادة إحياء هذه الصناعات هو استثمار في الاقتصاد الثقافي والإبداعي. يمكن للمؤسسات الثقافية أن تطلق مبادرات لدعم الحرفيين وتطوير تصاميمهم بما يتناسب مع العصر.
لكن كل هذه الجهود لن تتحقق إلا إذا كان هناك إرادة مجتمعية ومؤسسية قوية. يجب أن تكون هناك خطط استراتيجية شاملة تشمل التعليم، الإعلام، الفنون، والاقتصاد الثقافي. كما يجب أن يكون هناك تعاون بين المؤسسات العامة والخاصة لتمويل المشاريع الثقافية التي تهدف إلى الحفاظ على التراث وتطويره.
لا بد من إجراء دراسات عميقة حول التراث الإماراتي بمكوناته المادية وغير المادية. تحتاج الإمارات إلى دراسات متخصصة حول كيفية فهم الزمن في سياقها الثقافي والفلسفي، وكيفية إعادة بناء العلاقة بين التراث والحداثة. كذلك، يجب أن تكون هناك دراسات شاملة حول النصوص التاريخية الإماراتية ودورها في تشكيل الوعي الجمعي، وكيفية استخدامها لنقل القيم الوطنية والأخلاقية.
من هذا المنبر، نوجه نداءً عاجلاً إلى الباحثين والمؤسسات الثقافية في الإمارات بضرورة إجراء دراسات عميقة وشاملة حول تراثنا. هذه الدراسات هي استثمار في المستقبل، حيث يمكن للتراث أن يكون الأرضية المتينة التي تربط الأجيال وتضمن استمرارية الهوية الوطنية في وجه كافة التحديات التي يمكن أن تواجهها.