منى خليفة الحمودي
هل القيمة التي ننسبها لذواتنا مسألة وعي فردي أم أنها في جوهرها انعكاس مشروط لنظرة الآخر؟ فإذا افترضنا أن الشعور بالاستحقاق لا يتولد من الداخل الخالص، بل يُستدعى عبر صورتنا في عيون المجتمع.
فنحن لا نُجرد المكانة من بُعدها الأخلاقي، بل نُعيدها إلى سياقها الاجتماعي، حيث لا يُبنى الاعتراف في عزلة الضمير، بل في ساحة مزدحمة بالإشارات الخفية التي تصنع وتكسر الصور الذهنية دون أن تصدر حكماً مباشراً.
في هذا السياق، يصبح الوجود الاجتماعي عملية تفاوض مستمر بين ما نعلنه وما يُقرأ منا دون تصريح، فكل إيماءة مهما بدت تافهة هي حامل دلالي مشحون من خلال نبرة الصوت، وترتيب الجملة، والتوقيت، ونظرة العين، وحتى الصمت ذاته.
وهذه ليست تفاصيل عرضية، بل رموز في سوق غير مرئي تُتداول فيه الانتماءات والمراتب، وتُنسج عبرها خرائط النفوذ والقبول والتهميش، وما يؤلم في هذا السوق أنه لا يعمل وفق منطق العدالة أو الجدارة، بل وفق معايير ضمنية لا تُدرّس ولا تُعلن، لكنها تُمارس بصرامة شديدة.
وهذا ما تحدث عنه ضمنياً الكاتب آلان دو بوتون وعرفه باقتصاد الإشارات الخفية في كتابه «قلق السعي إلى المكانة»، حيث يُظهر كيف تحكمنا منظومة ترميزية معقدة، تحدد تموضعنا الاجتماعي بصمت، وفي هذا النظام لا يمنح التقدير وفق ما نفعله أو نقدمه، بل وفق قدرتنا على قراءة السياق وتمثيله، فهل يبدو صمتك صمت العارف أم صمت الغريب؟
هل يعرف جسدك الإيقاع المناسب للمكان؟ وهل تستخدم المفردة الصحيحة؟ إنها شبكة كثيفة من العلامات، تشكل امتحاناً دائماً، لا يُفصح عن قواعده، لكنه يرسم مصيراً نفسياً واجتماعياً عميقاً.
وفي لحظات معينة، لا يحتاج الإنسان إلى رفض مباشر ليشعر بالإقصاء، يكفي أن يعاد تقديمه في مناسبة دون ذكر صفته، أو أن يتجاوز في ترتيب الحديث، أو أن تسرق فكرته وتعاد صياغتها على لسان شخص آخر ليحتفى بها وكأنها وُلدت لتوها، لتبدأ تلك اللحظة الدقيقة التي ينكمش فيها الإحساس بالمكانة.
ويبدأ فيها الشك بالتسلل إلى نظرة الإنسان لنفسه، تلك ليست مواقف عابرة، بل لحظات مفصلية تراكم أثراً داخلياً يعيد تشكيل العلاقة بالذات، ويعيد تعريف الكينونة بموجب ما يسقطه الآخر من إشارات غير مرئية.
ومن عمق التجربة؛ ما لا يقال في هذا السياق يصبح أكثر فاعلية مما يقال، فالصمت الاجتماعي، والإشارات المتوارية، والقراءة الرمزية للغياب، كلها تشكل أدوات غير منصفة لمراتب المكانة.
وفي البيئات التي يغيب فيها التصنيف العلني، لا يُفهم التقدير من خلال الإعلان الصريح، بل يُلتقط من طبيعة التفاعل، ومن ترتيب الأدوار، ونمط الإنصات، وطريقة التلقي، وهكذا لا تتحدد القيمة الاجتماعية بما يُنجَز، فتتحول الحياة اليومية إلى اختبار تأويلي مستمر لا ينتهي.
وتزداد هذه المعضلة حدة عند أولئك الذين انتقلوا بين طبقات ثقافية أو اجتماعية مختلفة، فهؤلاء لا يقابَلون بالرفض، بل يواجهون مقاومة أكثر خفاءً، بنظرات باردة وتجاوب فاتر وصمت يبدو اعتراضاً مستتراً.
ويجدون أنفسهم مجبرين على تعلم كود أو شيفرة نجاة تجعل من الرقابة الذاتية ضرورة، ومن الصمت فناً، ومن التلقائية خطراً يحتمل تأويله في غير موضعه، وهكذا تتحول اللغة من وسيلة تواصل إلى آلية دفاع، ويغدو الصمت بديلاً عن الإفصاح خشية الوقوع في المحظور الرمزي.
وفي هذا المناخ الخانق، تتحول الأصالة إلى عبء إن لم تُرفق بإشارات الانسجام وتصبح الذات في حالة تشذيب دائم، تعيد إنتاج حضورها بما يتوافق مع النغمة المقبولة.
ومن لا يجيد التماهي، يظل معلقاً خارج دائرة الاعتراف، حتى لو كان حاضراً في كل التفاصيل، فالحضور هنا لا يقاس بكثافته الفعلية، بل بمدى انسجامه مع الإشارات السائدة ولو كانت صامتة!
في النهاية، لا يتعلق الأمر فقط بما نفعله أو نقوله، بل بكيفية تموضعنا داخل شبكة غير مرئية من الفهم والإيحاء، وهذا بند أصيل من بنود اقتصاد الإشارة، حيث لا تختبر الذات بوصفها جوهراً، بل بقدرتها على أن تصبح كائناً زئبقياً في زمن مختلف، ولكن إذا كانت المكانة مرهونة بالقدرة على التكيف، فكيف تصان ملامح الذات من الانسلاخ النفسي التام؟