د. عبدالله المدني
في أعقاب فوز الرئيس الكوري الجنوبي الحالي «لي جاي ميونغ» بزعامة بلاده في يونيو الفائت خلفاً للرئيس اليميني المعزول بأمر قضائي «يون سوك يول»، برزت أسئلة كثيرة حول مواقفه وتوجهاته الخارجية، ولا سيما حيال النظام الشيوعي الحديدي في كوريا الشمالية، وخصوصاً أنه مصنف كيساري يفضل مهادنة نظام بيونغيانغ المشاغب بدلاً من التصعيد ضده.
لقد مرّ اليوم أكثر من شهر على تسلمه مقاليد الأمور في سيؤول، وهو لا يزال حذراً لجهة التعبير عن مواقفه في حال حدوث أي عمل طائش من دكتاتور بيونغيانغ «كيم جونغ أون» أو في حال اندلاع حرب في المنطقة بشأن تايوان، الأمر الذي فجر تساؤلات وشكوكاً جديدة حول نياته.
وهذه التساؤلات مع ما يرافقها من مخاوف، مبررة لسبب بسيط هو أن المنطقة مقبلة على أزمات واضطرابات كثيرة، ليس بسبب رعونة وعنتريات وتهديدات بيونغيانغ فقط، وإنما أيضاً بسبب التحركات العسكرية الصينية ضد تايوان التي ما إن تهدأ حتى تشتعل مجدداً انطلاقاً من حالة العداء والتنافس المستمرة والمتعاظمة بين بكين وواشنطن.
وفي مثل هذه الحالات، من الخطأ الاستراتيجي الجسيم ألا يفصح صاحب القرار في سيؤول عن موقف واضح وجلي معزز بخطط عملية من الأحداث الجارية أو الأحداث المحتملة لأن الصمت والانتظار ومواقف ضبط النفس وغيرها قد تزيد من مخاطر سوء الفهم الاستراتيجي وقد تبعث برسائل خاطئة للأعداء من شأنها أن تزعزع استقرار الحلفاء دون قصد، أو تشجع المنافسين والخصوم في الداخل.
إن قضية تايوان، وتعهد الولايات المتحدة بالدفاع عنها ضد أي عملية غزو من قبل الجيش الأحمر الصيني تشكل مأزقاً بالنسبة لصانع القرار في سيؤول لسببين رئيسين، أولهما أن كوريا الجنوبية ــ شاءت أم أبت ــ ملزمة بالانخراط في أي صراع عسكري أمريكي ــ صيني.
كونها حليفة للولايات المتحدة وتستضيف فوق أراضيها قواعد عسكرية أمريكية تحتضن الآلاف من الجنود وترسانة ضخمة من أحدث الأسلحة، بل إن هذه القواعد صممت وتمت تهيئتها خصيصاً من أجل هبوط وإقلاع المقاتلات الأمريكية لضرب أهداف برية وبحرية في الجوار.
أما السبب الآخر فيتمثل في أن انخراطها عسكرياً مع واشنطن ضد بكين، سيخلق المبرر المثالي لبكين كي توعز لكوريا الشمالية المدججة بالسلاح النووي والباليستي بغزو أراضي كوريا الجنوبية، وخصوصاً أن الصين هيأت كوريا الشمالية للقيام بمثل هذا الدور في حالات معينة.
وهكذا نجد أن الخطاب العام والسياسي داخل كوريا الجنوبية يميل نحو موقف ملتبس استراتيجياً، بل موقف يخلط بين الأهداف الاستراتيجية والأهداف غير الاستراتيجية، كيلا نصفه بموقف «الحياد المستحيل» أو «الحياد غير المجدي». ومثل هذا النهج في نظر المراقبين يفتقر إلى التماسك والصلابة ويقلل من هيبة النظام والدولة ويكشف عن سوء تقدير واستشراف.
تستطيع سيؤول أن تدعي أن الحلفاء في آسيا بقيادة الولايات المتحدة يفتقرون إلى خطة متفق عليها لسيناريوهات تايوان، ودور كل حليف فيها، لكنها لا تستطيع أن تنفي حقيقة أن واشنطن أطلقت في عام 2022 استراتيجية الدفاع الوطني المعززة بمفهوم «الردع المتكامل».
ثم ضغطت على الدول الحليفة كاليابان وكوريا الجنوبية والفلبين للتنسيق في مجالات القيادة والتحكم والاتصالات والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والشبكات اللوجستية، وربط ساحات العمليات المتعددة بعضها ببعض، وعدم الاكتفاء بشؤون تدريب القوات وتحريكها.
وهذا، بالنسبة لسيؤول تحديداً، يعني تجاوز التركيز على كوريا الشمالية، وتهيئة القوات والقواعد والمنشآت والقوانين والرأي العام المحلي لحالات طوارئ إقليمية أوسع بكثير، هذا علماً بأن استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية لعام 2022 تعاملت مع فرضية نشوء حربين في آن؛ حرب مع الصين بشأن تايوان، وأخرى مع كوريا الشمالية بشأن كوريا الجنوبية.
ونختتم بالإشارة إلى ما عبّر عنه العديد من المراقبين أن على صانع القرار في سيؤول ألا ينظر إلى مشاركة بلاده في أي جهد حربي لحماية تايوان من التنين الصيني أنه عبء إضافي أو توريط أمريكي، وإنما النظر إليها كثمن لحماية بلاده وازدهارها وحريتها وتفوقها الاقتصادي ومصداقية تحالفاتها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي المترابطة.
ويضيف هؤلاء إن على سيؤول ألا تخدع نفسها بتبني موقف الحياد إذا اندلعت الحرب في جوارها حول تايوان، والتدليل على ذلك بعدم إقحام قواتها ونيرانها في المعارك، لأن واشنطن ستطلب منها حتماً الوصول إلى قواعد كورية من تلك التي توفر لقواتها الوقود والإمدادات والمدرجات المحصنة مثل قواعد أوسان وغوسمان وبوسان وجيجو.