تايلاند في أزمة سياسية مجدداً

د. عبدالله المدني

حينما تسلمت بايتونغتارن شيناواترا، ابنة الزعيم التايلاندي المثير للجدل، وجالب الصداع منذ أمد للقصر والجيش معاً تاكسين شيناواترا، رئاسة الحكومة التايلاندية في أغسطس 2024 بعد فوز حزبها (بويا تاي) في انتخابات صعبة، كتبنا قائلين: «إن بقاءها في السلطة لن يطول كثيراً».
لم يكن ذلك تنجيماً وإنما قراءة للواقع السياسي المضطرب في هذه البلاد، التي تسودها انقسامات حادة وصراعات بين الجيش والأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني منذ سنوات، ناهيك عن دسائس وعمليات تجييش يقودها والدها، رئيس الحكومة الأسبق (ما بين عامي 2001 و2006).
ورجل الأعمال النافذ والذي حُكم عليه في 2023 بالسجن لمدة عام، ثم حصل في 13 فبراير 2024 على إطلاق سراح مشروط، وتنتظره محاكمة جديدة.

وها هي تايلاند تعود إلى مأزق سياسي منذ مطلع يوليو الجاري، وتصل التطورات فيها إلى وضع مشابه لما حدث في كوريا الجنوبية (مع فارق الأسباب والدوافع) من كف يد زعيم البلاد المنتخب عن العمل، وتقديمه للمساءلة، ثم قرار قضائي بعزله وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، فاز بها مرشح المعارضة.
ففي الأول من يوليو الجاري أوقفت المحكمة الدستورية التايلاندية رئيسة الوزراء عن العمل استجابة لعريضة موقعة من 36 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ، يتهمونها فيها بخيانة الثقة، وخرق المعايير الأخلاقية وانتهاك الدستور.
إن ما فعلته شيناواترا لم يصل إلى حد الانقلاب على الدستور، ومحاولة الاستفراد بالمعارضة كما حدث في المثال الكوري الجنوبي في ديسمبر من العام الماضي، وإنما تمثل في تسريب الكمبوديين لمحادثة هاتفية ذات حساسية سياسية، أجرتها مع «هون سين» رجل كمبوديا القوي الممسك بتلابيب السلطة في بلاده على الرغم من تنحيه لصالح ابنه.

في تلك المحادثة الهاتفية، التي أجريت في 15 يونيو المنصرم، وهدفت لنزع فتيل توترات حدودية متصاعدة بين البلدين الجارتين، انتقدت شيناواترا قائد الجيش التايلاندي، على الرغم من علمها المسبق بأن التعرض للجيش وجنرالاته خط أحمر. وبطبيعة الحال اعتذرت لاحقاً قائلة، إن تعرضها لقائد الجيش كان ضمن تكتيكات تفاوضية من أجل تسوية الخلافات مع كمبوديا.
ويبدو أن جنرالات الجيش اعتبروا انتقادها لهم بمثابة إهانة، خصوصاً مع علمهم بالعلاقات الوثيقة القديمة بين «هون سين» ووالدها تاكسين شيناواترا، فحركوا أدواتهم في مجلسي النواب والشيوخ، للاحتجاج والمطالبة بمساءلتها دستورياً.
وهكذا تحرك النواب الستة والثلاثون في مجلس الشيوخ مطالبين بإيقافها عن العمل، ثم تحرك أحد الأحزاب المؤتلفة مع حزبها فسحب تأييده في مجلس النواب للحكومة، لتتركها دون أغلبية برلمانية بقصد حجب الثقة عنها.

فيما كان الإعلام الموالي للجيش يتهمها بالقول إن عدم تشددها ضد كمبوديا هو رد لجميل الكمبوديين، الذين استضافوا والدها لسنوات بعد خروجه من السلطة على يد الجيش، بل ومكنوه أيضاً من استخدام أراضيهم في انتقاد الجيش التايلاندي، وفي أعمال التآمر للعودة إلى السلطة.

وبمجرد أن انتشرت الأخبار حول الواقعة نزل الآلاف من معارضي السيدة شيناواترا وخصوم عائلتها الثرية إلى الشوارع للمطالبة باسقاطها، فبدأت تباشير دخول العائلة الشيناواترية في عين العاصفة للمرة الثالثة، من بعد عزل والد بايتونغتارن (تاكسين شيناواترا) عام 2006 وعمتها (ينغلوك شيناواترا) عام 2014.
من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في تايلاند في الأشهر المقبلة، فالمحكمة أوقفت شيناواترا عن العمل كونها رئيسة للحكومة إلى حين صدور حكم بتبرئتها وإعادتها إلى السلطة، أو عزلها نهائياً مع منعها من مزاولة السياسة لعشر سنوات والدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة (على الأرجح، مطلع العام المقبل).
ولعل ما يثبت ويؤكد ضعف شيناواترا وتخبطها ومحاولاتها اليائسة لجهة للبقاء في السلطة بشكل أو بآخر، أنها قامت، قبل صدور قرار بإيقافها عن العمل رئيسة للوزراء بتعيين نفسها وزيرة للثقافة كي تظل عضواً في الحكومة ريثما يتقرر مصيرها. والأمر الآخر والأهم تمثل في قيامها بترتيبات أشبه بالمسرحية السياسية.

حيث طلبت، قبل إيقافها عن العمل بساعتين، من وزير دفاعها، السياسي المخضرم المتهم بمولاة الشيوعيين ووزير التجارة ورئيس الوزراء المؤقت عام 2024، والشخصية المعروفة بولائها لعائلة شيناواترا، «فومتام ويتشاياتشاي»، أن يستقيل من منصبه كي تعينه نائباً لرئيس الوزراء، فيكون هو البديل لها خلال فترة مساءلتها، التي قد تستغرق أسابيع أو أشهراً.

وبطبيعة الحال تمت المسرحية بالاتفاق مع نائب رئيس الوزراء الأصلي، سوريا جونغروانغكيت، (سياسي مخضرم تنقل ما بين أحزاب كثيرة، وشغل من قبل منصب نائب رئيس الوزراء مرتين، وتولى حقائب المواصلات والصناعة في حكومات مختلفة). وبهذه الإجراءات زادت نقمة الكثيرين عليها لتركها حقيبة الدفاع دون وزير أصيل في وقت تواجه تايلاند صراعاً عسكرياً دامياً مع كمبوديا.



شريط الأخبار