علي عبيد الهاملي
لا أحد يولد على الهامش، فلكل إنسان في هذه الأرض خريطةٌ تُرسم له منذ صرخته الأولى. خريطةٌ تبدأ باسمٍ يهمس به الأب، وبلدٍ يُسجَّل فيه المولود، ودينٍ يتلقن تعاليمه قبل أن يعي، ولغةٍ تخرج من فمه قبل أن يعرف كيف يكون النُّطق.
هذه كلها ليست تفاصيل، بل هي بذور الهوية. والهوية، شئنا أم أبينا، هي القالب الأول الذي تصبّ فيه الحياة ملامح الإنسان. لكن الهوية، كما وصفها أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» ليست ثابتة كالنقش على الحجر، بل هي كالنهر، الذي يتغيّر مجراه، ويتسع، وقد يضيق، بحسب ما يعترضه من تضاريس وتيارات.
الهُوية تُشكّل الإنسان، نعم. لكنها لا تكتفي بذلك. إنها تسوقه أيضاً، تُرسم له المسارات، وتُلقي عليه الظلال، وتُهيّئ له مصيره. فقد يولد المرء في بيئة تُعلي من شأنه، لا لشيءٍ فعله، بل لأنه يحمل جوازاً بلونٍ معينٍ، أو يتكلم بلسانٍ معينٍ، أو يعتنق ديناً أو مذهباً تتصدّر قائمته الأكثرية. وقد يولد آخر ليكتشف، وهو لم يزل غضّاً، أن انتماءه سجنٌ يحبسه، لا بطاقة تعريفٍ تعرّفه.
لقد جاءت العولمة والانفجارات الرقمية لتقول إن الهوية لم تعد فقط ما نكتبه في بطاقة الأحوال، بل أصبحت فضاءً متشعباً، تتداخل فيه المعتقدات، واللغات، والانتماءات.
قد يكون الإنسان عربياً ومسلماً، لكنه غربيّ الهوى أو شرقيّه، إنسانيّ الرؤية، دون أن يجد في ذلك تناقضاً. لكن المفارقة أن المجتمع لا يرحم هذا التعدد، بل يُطالبه غالباً بأن يُعلن ولاءه الوحيد، أو يخرُج من الصف.
هنا تكمن خطورة الهوية حين تتحول من رابط إلى سيف، ومن جسر إلى خندق، حين تتحول إلى معيار للتصنيف، بدل أن تكون وسيلة للفهم والانفتاح. كثيرٌ من الصراعات في العالم اليوم ليست سوى حروب هويات، تتخفّى خلف شعارات الدين أو الطائفة أو القومية. وبدل أن تكون الهوية حمايةً للذات، صارت أداةً للانقسام والعنف والنبذ.
ولعل السؤال الأخطر هنا: ما الذي يفعله الإنسان العادي حين يجد نفسه مهدداً بهويته؟ إما أن يتطرّف في الدفاع عنها، أو يتنكر لها. وكلا الخيارين، في النهاية، جناية على النفس. فالتطرف يسدّ الأفق، والتنكر يمحو الجذور.
في خضم هذا الاشتباك الهوياتي، تتعقّد علاقة الإنسان بالآخر. فحين يرى نفسه «نحن» ويرى الآخرين «هم» يبدأ الحذر، ويبدأ التوجس، ويبدأ التصنيف. يُصبح كل اختلاف تهديداً، وكل مخالفة خطراً، ويغيب عن البال أن الآخر أيضاً يحمل هويةً، وأن الاختلاف لا يُفترض أن يعني الخلاف.
الهُوية السليمة هي التي تُعطي الإنسان ثقةً، لا خوفاً من الآخر. تُعطيه جذوراً تمتدّ، لا قيوداً تُقيد، وهي التي تُعلّمه أن الانتماء لا يعني العداء، وأن الحب لا يحتاج إلى عدو كي يثبت نفسه.
لقد آن الأوان لأن نُعيد تعريف هويتنا لا كجدار نحتمي به، بل كنافذة نطل منها على العالم. فالعصر الحديث لا يحتمل الهويات المتحجرة، والتاريخ لن يرحم من يصر على حمل السيف باسم الطائفة أو القبيلة أو اللغة.
نعم، للهوية دورٌ لا يُنكر في تشكيل شخصية الإنسان، لكن مسؤوليتنا اليوم أن نُحرر هذه الهوية من أحادية المعنى، ومن العنف الرمزي، ومن الغرور المريض. فكلما وسّعنا دوائر انتمائنا، اقتربنا أكثر من الإنسانية التي تجمعنا.
نعود مرة أخرى إلى كتاب «الهويات القاتلة» للمفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف، وهو عمل تأملي عميق نُشر أول مرة عام 1998 باللغة الفرنسية. يتناول الكتاب موضوع الهوية الفردية والجماعية، وأسباب تحولها إلى أداة للقتل والصراع، بدلاً من كونها مصدراً للثراء الإنساني والتنوع. الهوية.
كما يراها معلوف، ليست ثابتة أو أحادية، بل هي مركّبة ومتعددة، تتكون من عدة انتماءات دينية، قومية، لغوية، جغرافية، وثقافية. لكن في لحظات التوتر، يُطلب من الإنسان أن يختزل نفسه في أحد انتماءاته، وهذا يولّد ما يسميه بـالهوية القاتلة.
يقول معلوف إن لكل إنسان هوية مركبة من عناصر مختلفة، لكن المجتمع والظروف السياسية والضغوط النفسية قد تجبر الفرد على اختيار الولاء الأحادي، وهو ما يؤدي إلى العداء مع الآخر المختلف.
عندما نتأمل ما يجري حولنا من صراعات وحروب، نكتشف أن هناك هوياتٍ تقتل أصحابها، وهذا ضد فكرة الهوية التي من المفروض أن تحمي صاحبها.