محمد الرميحي
في قصر الإليزيه في ثمانينيات القرن العشرين، وساكنه فرنسوا ميتران، كانت تتردد عرافة اسمها اليزبيث تسيبيه، كانت تقدم رؤية في التوقيت للرئيس، وقتها أثار الموضوع سخرية من بعض الأوساط، وينقل لنا محمد توفيق في كتابه «الملك والكتابة» الجزء الثالث، أنه في زيارة لباريس للمرحوم حسني مبارك - بعد رئاسته - استشار تلك العرافة، فنصحته ألا يعين نائب رئيس، لأنه إن فعل سيموت في العام نفسه، ولم يفعل، حتى آخر أيامه، وكان مضطراً.في الأسبوع الأخير من كل عام تتكاثر علينا التنبؤات والمتنبئون، وتزدحم الشاشات والصحف ومنصات التواصل بسيل من القراءات المستقبلية التي تدعي معرفة ما سيحدث في العام المقبل، سياسياً. ولأن العقل البشري ميّال بطبيعته إلى تذكر الإصابة ونسيان الإخفاقات، ويمنح من أصاب مرة واحدة رصيداً وهمياً من المصداقية، متجاهلاً عشرات التوقعات الخاطئة، التي سبقتها أو لحقتها. وهكذا تتحول المصادفة إلى مهارة، والاحتمال إلى يقين.
في حقيقة الأمر، العملية برمتها أقرب ما تكون إلى سوق مفتوحة، يتداول فيها الخوف والرجاء معاً. كثير من التنبؤات لا تهدف إلى المعرفة بقدر ما تهدف إلى لفت الانتباه، والانتباه يتحول إلى شهرة، والشهرة تتحول إلى مال. أما المنهج، ففي الغالب غائب، وأما العلم، فمستدعى بالاسم فقط، من دون أدوات أو معايير يمكن اختبارها.
تحرك المجتمعات والأفراد عملية شديدة التعقيد، تتداخل فيها السياسة والاقتصاد والثقافة والنفس البشرية والصدف غير المتوقعة. حتى أكثر مراكز البحث تقدماً تعجز عن تقديم توقعات دقيقة بعيدة المدى، وتكتفي بقراءة اتجاهات واحتمالات قابلة للتغير. التاريخ نفسه، حين نعيد قراءته، يبدو منطقياً بعد وقوعه، لكنه كان مليئاً بالمفاجآت قبل أن يحدث، وهو ما يجعل ادعاء معرفة المستقبل ضرباً من الكذب الصريح.
ومع ذلك، لا يزال هناك من يرى أن قراءة الطالع أو حسابات النجوم تحمل حقيقة ثابتة، وأن حركة الكواكب ترسم مصائر البشر. هذه المعتقدات، مهما بدت جذابة أو مريحة، لم تصمد أمام أي اختبار علمي جاد، وهي أقرب إلى الحاجة النفسية للطمأنينة منها إلى المعرفة. الإنسان، حين يواجه المجهول، يبحث عما يخفف قلقه، حتى لو كان ذلك وهماً منظماً يقدم له إجابات جاهزة.
الخطر الحقيقي لا يكمن في التنبؤ بحد ذاته، بل في التسليم به، وفي بناء قرارات فردية أو جماعية على توقعات لا أساس لها. حين تتحول النبوءة إلى بوصلة للفعل، يتراجع العقل، ويتقدم الوهم. المستقبل لا يقرأ في الأبراج ولا في الكفوف، بل يصنع بالعمل، وفهم الواقع، ودراسة الاتجاهات، والاستعداد لاحتمالات متعددة بعقل نقدي ومسؤول، يدرك أن الغيب ليس مهنة، وأن المعرفة الحقيقية تبدأ من الشك لا من اليقين. ولذلك فإن التعامل الرشيد مع المستقبل يبدأ من الاعتراف بعدم اليقين، لا من إنكاره.
المجتمعات التي تتقدم لا تبحث عمن يطمئنها بتوقعات وردية أو مخيفة، بل تستثمر في المعرفة، والتعليم، وبناء المؤسسات القادرة على التكيف مع المفاجآت.. إن أخطر ما في ثقافة التنبؤ أنها تريح الفرد من مسؤولية الفعل، وتمنحه شعوراً زائفاً بأن ما سيأتي قد كتب سلفاً، فلا جدوى من المحاولة أو التغيير. بهذا المعنى، يصبح التنبؤ عائقاً لا أداة، ويغدو الوهم بديلاً عن التفكير. أما المجتمعات الحية، فهي تلك التي تفهم أن المستقبل مساحة مفتوحة للاجتهاد، لا صفحة مغلقة تنتظر من يقرأها.
لهذا فإن الحكمة تقتضي أن نعامل كل تنبؤ بوصفه رأياً لا حقيقة، واحتمالاً لا قدراً، وأن نعيد الاعتبار للعقل النقدي، وللعمل اليومي المتدرج، بوصفها أدواتنا الوحيدة لصناعة غد أقل ارتباكاً وأكثر اتزاناً، بعيداً عن الضجيج الإعلامي وإغراء الشهرة وسهولة الادعاء الرائج اليوم. (كل عام والجميع بخير)