منال البريكي
حين زار جلالة الملك عبدالله الثاني عاهل المملكة الأردنية الهاشمية، دولة الإمارات العربية المتحدة في مارس 2025، لم تكن تلك الزيارة بالنسبة لي مجرد لقاء رسمي بين قائدين شقيقين، بل كانت لحظة استثنائية أعادت إلى ذاكرتي مشاهد طفولتي في عمّان، حين كانت مدينتها جزءاً من تفاصيل حياتي اليومية. فقد قضيت جزءاً من طفولتي في الأردن نظراً لعمل والدي في المجال العسكري، وكنت أرى في كل زاوية من زواياها امتداداً لأصالة الإمارات، وروح البيت العربي العريق، المتأصل في الموروث والعادات والتقاليد.فتح أصحاب البيوت الأردنية لنا قلوبهم، حتى لم نشعر في يوم بأننا غرباء. كنا نتشارك نحن والجيران الأطباق التراثية بين البلدين، ونستقبل الشتاء بثوبه الأبيض بينما يرتشف والداي الشاي مع جيراننا النشامى على إيقاع الحكايات التي تشبه حكاياتنا في الإمارات. المنسف الأردني والمقلوبة، يقابله المجبوس الإماراتي والهريس.
كنا نلعب مع صديقتنا وجارتنا سهى، ونحتفل معها بأعياد الميلاد في لحظات دافئة تعبّر عن عمق الروابط بيننا، والتي مازالت توثقها ألبومات الصور حتى الآن. أما أيام الثلج، فكانت لها نكهة خاصة، حين نلهو جميعًا خارج المنزل بفرح الأطفال، ونحمل في قلوبنا ذكريات ما زالت حية في الذاكرة.
ما زلت أذكر تفاصيل تلك الأيام الجميلة، زياراتنا المتكررة إلى حمامات ماعين، وحدائق الملك عبدالله، والبحر الميت، ورحلاتنا لمدينة جرش العريقة ومهرجاناتها الفنية والثقافية الرائعة. ولا يمكنني الحديث عن ذكرياتي في الأردن دون أن أذكر المكان الأقرب إلى قلبي حيث كنت وإخوتي نستمتع بكل لحظة فيه، وهو "مدينة الجبيهة"، تلك الملاهي الجميلة الواقعة في منطقة جبلية ذات طبيعة خلابة. كانت مكانًا نابضًا بالحياة، تملؤه ضحكات الأطفال وفرح العائلات في كل زاوية. لحظات لا تُنسى ترسخت في وجداني كجزء لا يتجزأ من طفولتي الجميلة. "للأسف، سمعت أنه قد تم هدمها منذ سنوات، لكن ذكراها ما زالت حية في القلب".
ما بين عمّان وأبوظبي، تخلق الأيام روابط ثقافية واجتماعية راسخة، تعكس عمق التقارب بين شعبين يجمعهما احترام العائلة، وتقدير الكلمة، والتمسك بعادات قديمة تُصان كأنها إرث لا يُمس. وإن كانت الجغرافيا تفصلنا، فإن القيم توحّدنا. وهذا الرابط العميق ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لعلاقة أخوية أرساها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والملك الحسين بن طلال، رحمه الله، حين وضعا معاً أسس الأخوّة الصادقة التي لا تزال تنبض حتى يومنا هذا.
زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني ولقاؤه بأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، لم تكن مجرّد محطة دبلوماسية عابرة، بل كانت تجديداً لعهد الأخوة، وتأكيداً على شراكة تقوم على الثقة والتعاون المستمر في مختلف المجالات، من التعليم والصحة إلى الأمن، والاستثمار ، والعمل الإنساني. وأؤمن بأن العلاقات بين الإمارات والأردن تشكل نموذجاً فريداً في المنطقة، يجمع بين ثبات الموقف، ومرونة التعاون، ورؤية واضحة نحو المستقبل.
ومن موقعي اليوم كامرأة إماراتية تعمل في مجال الدبلوماسية و العلاقات الدولية، أرى كيف اتّسع مفهوم الدبلوماسية ليشمل ما هو أبعد من السياسة التقليدية. فهناك دبلوماسية ناعمة تُمارسها الشعوب، وتمثلها النساء بشكل خاص، عبر الثقافة، والتعليم، والمبادرات الإنسانية، وحتى من خلال الكتابة والتعبير. فالمرأة في الإمارات والأردن لم تعد على هامش المشهد، بل أصبحت جزءاً فاعلاً في مراكز صنع القرار، تكتب فصولاً جديدة من الحضور والتأثير الحقيقي.
واليوم، أكتب من وحي ذاكرتي وتجربتي الشخصية، لا لأوثق لحظة سياسية بين بلدين شقيقين، بل لأعبّر عن قناعة عميقة بأن العلاقات الحقيقية تصنعها أيادٍ بيضاء ، ومواقف نبيلة، وقلوب حافظت على العهد، من طفلة عاشت بين البلدين، إلى امرأة تؤمن بأن المستقبل يُبنى على روابط كهذه، إنسانية قبل أن تكون سياسية.