الأهم من نبأ تنحي الرجل

سليمان جودة
الشيء الذي لم يعلن عنه الملياردير الأمريكي شكل علاقته بالعمل الخيري الإنساني ما بعد تنحيه

لا يزال نموذج قارون في القرآن الكريم نموذجاً للثراء، الذي لا ثراء بعده، وإلا فما معنى أن تتعاظم ثروته إلى حد أن العُصبة من أولي القوة كانت تعجز عن حمل مفاتيح الخزائن؟
لاحظ أن العُصبة من الرجال، التي يتكلم عنها القرآن تعجز عن حمل مفاتيح خزائن الثروة لا الثروة نفسها! ثم إن لنا أن نلاحظ أيضاً أن الله تعالى يقول في كتابه الكريم «وآتيناه من الكنوز»، بما يعني أن الثروة لم تكن مالاً بالمعنى الذي نعرفه للمال، وإنما كانت متنوعة ما بين المال وسواه كالذهب والفضة والأحجار الكريمة، وغيرها.
سوف يمر نموذج قارون في خاطرك وأنت تقرأ أن الملياردير الأمريكي، وارن باڤيت، قرر التنحي عن إدارة امبراطوريته، وأن الامبراطورية تتمثل في شركة بيركشاير هاثاواي، وأنه سوف يسلم إدارتها إلى مدير جديد، وأن ذلك سيكون على نهاية السنة.
إلى هنا لا جديد تقريباً في خبر التنحي في حد ذاته، لأن باڤيت ليس أول المليارديرات، الذين يتنحون، ولن يكون آخرهم بالتأكيد، فما أكثر الذين أقدموا على ما بادر به هو، وما أكثر الذين سيبادرون إلى الخطوة نفسها في المستقبل، ولكن الجديد شيئان، أولهما أن الملياردير الأمريكي في الرابعة والتسعين من العمر، وهو بذلك يكون من المعمرين بمقاييس منظمة الصحة العالمية، التي تقول إن كل الذين يتخطون التسعين إنما هم معمرون، والشيء الثاني أنه يتنحى عن ثروة تزيد على التريليون دولار، وإذا شئت أن تتصور حجم هذه الثروة فلا عليك إلا أن تكتب رقم 1 ثم تضع أمامه 12 صفراً، فهذه هي ثروة باڤيت، الذي تُطلق عليه أسواق المال لقب: «ساحر وول ستريت».
وليست وول ستريت إلا بورصة المال في نيويورك، وليس هذا اللقب سوى إشارة إلى أننا أمام رجل يستطيع تحويل التراب إلى ذهب، وإلا ما كانت ثروته قد تزايدت إلى الحد الذي يقال معه عنها أنها فوق التريليون، أي أنه حتى الـ 12 صفراً ليست قادرة على حصرها، ولا على وضعها في نطاق نفهم منه كَمْ تبلغ بالضبط؟
يقال عن مثل هؤلاء الذين هم في عمر باڤيت، إن أعمارهم وراءهم، أي أنهم لن يعيشوا بالتأكيد بقدر ما عاشوا مهما عمروا لاحقاً، فأكبر معمرة في العالم امرأة عُمانية تبلغ من العمر 133 سنة، وقد كانت حديثاً للإعلام قبل أيام، وكانت سنها المتقدمة جداً مثار دهشة من جانب كل الذين تمنوا لو يمنحهم الله طول العمر مثلها، ولكن وجود الملياردير الأمريكي في خانة المعمرين بالمقاييس العالمية لم يمنعه من القول إن تنحيه ليس معناه أنه سيغيب عن الصورة أو عن الشركة، ولكنه على حد تعبيره وهو يعلن عن التنحي القريب سيظل موجوداً، وسيلعب دوراً في الشركة لم يحدد طبيعته.
وكان الشاعر العربي القديم قد قال:
سئمتُ تكاليف الحياة ومَنْ يعشْ
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
ولا تعرف من أين جاء شاعرنا العربي القديم بهذه القاعدة، التي يضعها في هذا البيت من الشعر، فهو يقول إن كل إنسان يبلغ الثمانين لا بد أن يسأم أو يمل الحياة، ومع ذلك فقاعدته يبدو أنها لا تنطبق على باڤيت، الذي تجاوز التسعين لا الثمانين فقط. وكيف تنطبق عليه إذا كان قد خرج علينا يقول إنه سيكون موجوداً بالنسبة للشركة بعد تنحيه، وإنه سيلعب فيها دوراً يختلف عما كان يلعبه وقت أن كان على رأسها لخمسة عقود من الزمان؟
غير أن الشيء الذي لم يعلن عنه الملياردير الأمريكي المتنحي هو شكل علاقته بالعمل الخيري الإنساني في مرحلة ما بعد تنحيه عن قيادة الشركة، فلقد عرفناه من قبل مساهماً في هذا العمل بنصيب كبير، وبالذات خلال المرحلة التي كان فيها شريكاً للملياردير بيل غيتس.
وقتها كنا نتابع مساهمات الاثنين في هذا النوع من العمل، ولم تكن جنسيتهما الأمريكية تمنعهما من أن يمتد نشاطهما الخيري خارج الولايات المتحدة، لأننا نتحدث عن عمل إنساني بطبيعته، أي أنه يجري بذله للإنسان من حيث هو إنسان وفقط.
هذا ما سوف نترقبه من هنا إلى نهاية السنة حين يأتي أوان تنفيذ قرار التنحي، لأن تنحيه لا يهم في الحقيقة سوى الذين يعملون في شركته، وفي الشركات التابعة لها، وبالكثير يهم أهل «وول ستريت» في نيويورك، وبقية بورصات العالم، أما ما سوف يقدمه للعمل الخيري فإنه يهم الفقراء والمساكين حول العالم، وهؤلاء بمئات الملايين، وأكاد أقول بالمليارات لا بالملايين ولا بعشرات الملايين.



شريط الأخبار