اخدع السماء لتعبر البحر!

عوض بن حاسوم الدرمكي

في شتاء 208م كان أسطول هائل مُتراصّ لتساو تساو، حاكم مملكة «Wei» يحتشد على الضفة الغربية لنهر يانغتسي بجيش يناهز نصف مليون محارب في مواجهة حلف بين سون تشوان حاكم «Wu» وليو بي حاكم «Shu» بجيش صغير لا يتجاوز 50 ألف محارب، قبيل معركة تعتبر غير متكافئة أبداً، حينها كان الحل هو أن يُقنَع تساو تساو بأن خصومه أضعف مما يرى!
تم ذلك بأن قام سون تشوان، بناء على فكرة جنراله الداهية تشو يو، بمعاقبة القائد هوانغ غاي علناً حتى يقوم الجواسيس المندسون لتساو تساو بنقل الخبر، وتحت جنح الليل كان هوانغ غاي يراسل تساو تساو سِرّاً بأنه يريد الانشقاق وتسليم كامل الأسطول له.
الأمر الذي أفرح تساو وظن أن النصر سيتحقق بشكل سهل لم يتوقعه، وقام هوانغ كدليل على صدقه بإرسال عدد من السفن لتسليمها وقد هبّت الرياح الشرقية كما توقعها قادة المملكتين الصغيرتين، وما إن دَنَت من أسطول تساو تساو حتى تم إضرام النار بها وقد مُلئت بالكبريت والزيت.

وبينما قفز من بها، كانت ألسنة اللهب تنتقل سريعاً إلى أسطول تساو تساو، وفي تسارع الجنود للنجاة والسباحة باتجاه الشاطئ الغربي، تلقفتهم حراب ونبال الجيش الصغير، وتم هزيمة تساو تساو بطريقة كانت أقرب للمحال من تحققها!

من حِكم الصينيين القديمة مقولة: «اِخْدَع السماء لتعبر البحر»، فدوماً هناك طريقة ما لتغيير الموازين المتباينة، وعندما تكون مُستهدَفاً من الكبار فإنهم لن يدعوك وشأنك، لذا كان على الصين أن تخدع السماء لتعبر البحر الكبير الواضح للجميع، لذا خططت جيداً وعملت بالخفاء كثيراً حتى اشتد عودها وتقف لتقول «لا» لترامب وحربه الجمركية عندما ارتعشت بقية دول العالم!
عانت الصين من «فرعنة» أمريكية وغربية لمحاولة كبح جماح فورة نموّها الاقتصادي، فزيادة التعرفات الجمركية لم تكن أمراً حدث في 2025 فقط، والتضييق عليها في ما يخص حرب الشرائح وحجب التقنيات الفائقة كان قد قارب أن يكتم أنفاسها قبل أن تسعى بهدوء لأكبر حملة «قلب طاولة» في التاريخ الحديث، دون ضجيج وباستغلال مثالي لضجيج الأحداث حولها وادّعاء قصورها التقني عن الغرب حتى أعمى الغرب غروره!
عندما مُنِعَت عنها الطابعات الضوئية المتقدمة EUV من شركة ASML الهولندية لحرمانها من الشرائح بتقنية 7 نانو و5 نانو، وأُرهِقت بالزيادات الجمركية وارتبكت لديها سلاسل التوريد، لم تتباكَ على وضعها كما يفعل الفاشلون.
ولم تركع وتتوارى في الظلال، بل وضعت خططاً سريعة لمدى طويل ودون ضجيج يلفت الأنظار، فتبنّت مبادرة «الألف موهبة» في 2008 لاستقطاب العلماء الصينيين المهاجرين وغير الصينيين والذين يمتلكون قدرات متقدمة في العلوم والتقنية الحديثة .

وفي مقدمتهم العبقري «ليو فينغ فينغ» الذي عمل في شركات تكنولوجيا عالمية، ثم أطلقت في 2015 مبادرة «صنع في الصين 2025» لتكون كل صناعاتها المختلفة من الألف إلى الياء مُصنّعة ومُنتجة داخلها لا مستوردة من الخارج!

بهدوء كانت الصين تضخ 150 مليار دولار لدعم شركاتها في صناعة الشرائح مثل SMIC وHiSilicon وHuawei، وتتحايل على العقوبات الغربية باستخدام شركات من قرغيزستان وهونغ كونغ وماليزيا للحصول على المكوّنات المحظورة عليها لمحاكاتها ومعرفة كيفية تصنيعها محلياً.
وعملت على بناء سلاسل توريد محلية بالكامل لضمان التكامل الرأسي لاقتصادها، وبنت شراكات مع أسواق ناشئة بالخفاء لتأمين توريد مواد نادرة مثل الجاليوم والجرمانيوم اللازمة لصناعة الشرائح، وبنت شراكات بين الجامعات الصينية وشركات التقنية .

كما حدث بين جامعة بكين وSMIC، واستغلت عقوبات الغرب على روسيا لتصبح شريكها التجاري الرئيس مما عزز مواردها المالية لتمويل الأبحاث المتقدمة، والنتيجة؟

مبادة الألف موهبة نجحت بضم الآلاف من العلماء في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنية الفائقة، تم تطوير آلة طباعة ضوئية EUV بتقنية البلازما الناتجة عن تفريغ الليزر LDP مستغنية عن طابعات AMSL.
وأنتجت شركة SMIC شرائح 5 نانومترات بإنتاج ضخم وهي في طريقها لإنتاج شرائح 3 نانومترات بحلول 2026، ونجحت جامعة بكين بإنتاج شريحة خالية من السيليكون متفوقة على شرائح Intel الأمريكية بأداء أعلى بنسبة 40% واستهلاك طاقة أقل بنسبة 10%!

لم أتحدث عن بقية القطاعات الاقتصادية الناجحة، فالتقنية الفائقة هي رهان المستقبل، والصين لم تترك شيئاً للصُدَف بعد الصفعة الأولى التي أيقظتها، ومن يتوق للنجاح لن يضيع وقته في التبرّم ولن يرضى بأن يضعه الآخرون على الهامش، المهم أن تعمل بهدوء، دون ضجيج، دون بحث عن لمعانٍ وقتيٍ آفل، لتنجح، افعل كما فعلت الصين، وكما قال جنرالها القديم سن تزو: تحرَّك عندما لا يراك العدو!



شريط الأخبار