بغداد .. قمة التوقيت الصعب

جمال الكشكي


أطباء السياسة يبحثون دائماً عن الدواء الناجع لأمراض منطقتنا، لم تفلح الوصفات التقليدية في تعافي الجسد، الذي أعيته الضربات المتلاحقة، منذ ما يسمي «الربيع العربي». تلك الحالة المستعصية، تحتاج إلى دواء «تركيب»، داخل مختبرات وطنية، يشارك في صناعته كل العرب.
في توقيت مهم وصعب في آن، ووسط غيوم جيوسياسية، تأتي قمة العراق العربية الرابعة والثلاثون، لتحمل لنا تصورات عن حل لكل هذه الملفات الشائكة، التي طال أمدها، واستنزفت القدرات العربية، وجعلت المنطقة العربية عرضة للتدخلات الخارجية، واستغلال مواردها الداخلية، وجعلت التصورات الخرافية قابلة للتنفيذ.
إن بغداد، وهي تستقبل القمة العربية، تفكر بأنها استعادت أمتها العربية بعد سنوات طويلة، كانت تعاني فيها من غزو أمريكي، وحروب أهلية، وتدخلات إقليمية، وباتت مسرحاً للتجريب في صناعة الفوضى، لكنها الآن تستعيد أنفاسها العربية، خصوصاً أن هذه القمة أمامها ملفات شائكة، وحدود ملتهبة، والملفات في حاجة إلى حلول لا تحتمل رفاهية الانتظار.
النار تشتعل في فلسطين منذ ثمانين عاماً، ولعلنا نتذكر أن قضية فلسطـين كانت الجوهر والدافع الرئيس وراء تأسيس جامعة الدول العربية في مارس 1945، وقد سبقت الأمم المتحدة بأشهر.
ونتذكر أن الجامعة عقدت قمماً عديدة، تحت شعار فلسطــين، وبـرغـم أن فلسطـين لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، فإن جامعة الدول العربيـة، جعــلت منــها قضيـة حية لا تموت، وتصاعدت هذه القضية في العامين الأخيرين، ووصلت إلى مستوى المجازر، وأضيفت لها - مع الأسف - قضايا أخرى أكثر سخونة، فأصبحنا أمام حروب متفرقة، تارة في السودان، وأخرى في اليمن، وسوريا ولبنان وليبيا، غير تلك الصراعات التي تسببـت فيهــا قـوى إقليمـية مجاورة للعرب.
ولعلني أتوقف هنا عند ادعاءات بنيامين نتنياهو، بأنه أصبح المؤثر الكبير في الشرق الأوسط، وأنه يعمل على تغييره بالكامل، وهو ادعاء يمزق الخرائط العربية.
ولذا، فإن اللحظة العربية تتطلب في قمة بغداد الرد العملي على مثل هذه الادعاءات، من خلال التعاون العربي - الذي لا لبس فيه - في ملفات الأمن القومي العربي، والتعاون الاقتصادي والعلمي، والتأكيد على الثوابت الوطنية لكل دولة على حدة، والحرص الكامل على سيادة مؤسساتها الوطنية، ومنع انتشار ما يسمى الميليشيات، أو الجماعات التي لا تنضوي تحت سيادة الدولة الوطنية.
ولا يغيب عن الذاكرة العربية، تلك الأحداث الفوضوية التي ضربت المنطقة، ولا تزال آثارها واضحة في أكثر من بلد عربي، يعاني من حروب أهلية، أو اختلالات أمنية، أو تدخلات من قوى غير عربية، بذريعة محاربة الإرهاب.
ثمة ملفات مهمة أمام القادة والزعماء العرب في قمة بغداد، لا يمكن فصل ملف عن الآخر، فالسياق العربي، كالخيوط المتشابكة، لا يمكن أن ينجو أحد منفرداً من أية كوارث محتملة، من صنع السياسة في عالم يتغير ويتشكل، وفق مصالحه الذاتية، عالم سقطت قوانينه المعتادة، وقواعده الراسخة، وهو في طور التغيير العميق، على مستوى الخرائط والسكان، وأعتقد أن القادة والزعماء، لديهم الإدراك الكامل لما يجرى في هذه المرحلة العالمية المفصلية.
من الملفات الفاصلة والقاطعة في هذه القمة، ملف القضية الفلسطينية، فبداية، يجب أن تسكت المدافع وأزيز الرصاص، وتنتهي الإبادة في الأراضي الفلسطينية، وهذا لن يتأتى من دون صوت عربي جماعي واضح، بأن استقرار الإقليم، هو استقرار للعالم، ومن دون حل هذه القضية حلاً عادلاً، فلن يكون هناك استقرار على المسرح الدولي.
ثاني هذه الملفات، هو ملف التعاون الاقتصادي، الذي أقرته أكثر من قمة عربية، وعُقدت من أجله قمم اقتصادية، وحان الوقت لتنفيذ مقرراتها، وقد ناقشت القمة بالفعل كثيراً من هذه القرارات، ووردت في مفردات خطابات الزعماء، وأظن أن هذا الملف مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستقرار، ومنع الحروب، وعدم توسيعها، والحفاظ على الممرات البحرية والبرية، آمنة ومفتوحة أمام التجارة العالمية، في لحظة يتشكل فيها نظام تجاري عالمي جديد، بعد قرارات الرئيس الأمريكي، الذي تصادف وجوده في المنطقة، قبل أيام قليلة من انعقاد القمة.
إن قمة بغداد، تحمل العديد من الرسائل الجيوسياسية، التي تؤكد عودة العراق بقوة إلى محيطه العربي، وهي أيضاً فرصة سياسية ودبلوماسية كبرى لوحدة الصوت العربي في مواجهة التحديات العالقة، في توقيت استثنائي، يعاد فيه ترتيب الإقليم والعالم.



شريط الأخبار