علي عبيد الهاملي
كثر المتحدثون، وكشفوا عن مكنون نفوسهم. صمت القريبون، وجاء من أقصى الكرة الأرضية رجل يسعى. قال ما عجز عنه كثيرون ممن يعيشون بيننا، يأكلون من طعامنا، ويشربون من مائنا.كان هذا الرجل هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو يصف التحول في العواصم والمدن الخليجية. شهادة غير تقليدية، في وقت اعتاد فيه الآخرون أن ينسبوا كل الإنجازات لأنفسهم، ويسقطوا كل الإخفاقات على غيرهم.
قالها ترامب بصراحته المعهودة، التي لا تملك أمامها إلا أن تستمع، حتى وإن اختلفت مع لغته أو حساباته: «روعة أبوظبي والرياض، لم تُبْنَ بواسطة ما يُسمّى ببناة الأمم، بل على يد من يعيشون هنا، ويعرفون هذه الأرض».
لم تكن العبارة مجرد إطراء عابر. كانت توصيفاً دقيقاً لمسيرة بدأت من الصحراء، لكنها لم تتوقف عند حدود الواقع، بل حلّقت في فضاء الممكن، لتصبح أنموذجاً.
في زمن انكشاف الأمور على حقيقتها، ما زال هناك من يحاول أن يروج لنظرياته الحجرية، التي عفا عليها الزمن. لكن الدرس الحقيقي الذي التقطه ترامب، هو أن الهوية ليست عائقاً للتنمية، كما حاول البعض تصويرها، بل هي نقطة الانطلاق.
فالذي يريد أن يبني المستقبل، عليه أولاً أن يفهم الماضي، لا أن يتنصل منه. من أراد أن يصنع خارطة جديدة للأماكن من وراء المكاتب، وجد أن الرمل أكثر حكمة من الخطط المعلّبة.
لم تأتِ المعجزة الخليجية من فراغ. الدول الخليجية لم تنتظر تعليمات من أحد لتخطو نحو المستقبل. بل كانت تعرف وجهتها، وتملك البوصلة. وعندما قررت أن تبني، لم تكن بحاجة إلى من يُخبرها كيف تبدأ، بل كانت بحاجة إلى من لا يُعطّلها.
هذا هو الفرق بين من يعيش التحدي ومن يكتبه على الورق. والفرق بين من يُخاطب الأرض بلغتها، ومن يظن أن الخرائط تُرسم بعيداً عن نبض الناس.
«لقد حققتم معجزة حديثة... على الطريقة العربية». قالها ترامب، وكان يمكن أن يقولها أي إنسان منصف، يعرف ما الذي تعنيه كلمة «معجزة» في هذا السياق، لكن البعض ما زال يكابر، وتغلب عليه جاهليته. إنها ليست فعل خرافة، بل عمل دؤوب، وجهد مثابر، وصبر طويل، وإيمان لا يتزحزح، بأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع.
نعم، لم تُبْنَ دول الخليج على أنقاض وطنٍ هُدم ليستعيد حياته، بل على حلمٍ لم يغب عن عيون قادتها وشعوبها، حين كان العالم من حولهم يظن أن البداوة لا تُنجب مدناً، وأن الرمال لا تُنبت نخيلاً من الطموح. لكن المدن والعواصم الخليجية أثبتت أن من يعرف أرضه جيداً، يعرف كيف يبني عليها، لا كيف يهرب منها.
لقد آن لأولئك المتفذلكين أن يستمعوا بدل أن يُلقوا المواعظ، وأن يروا لا أن يُمْلوا، وأن يدركوا أن النماذج لا تُفرض، بل تُولد من رحم الواقع. وما تحقّق هنا ليس مجرد معجزة، بل شهادة بأن من يفهم تاريخه جيداً، لا يخشى المستقبل.
اليوم، لم يعد في الأمر مجال للجدل، فالمشهد الذي تراه العين في منطقة الخليج، لا تفسّره المقالات، بل تشرحه الوقائع. ناطحات السحاب لا تقف على أرضٍ رخوة، بل على رؤية متماسكة. والموانئ التي تربط الشرق بالغرب، لا تُبنى بعقلية ارتجالية، بل بتخطيط يعرف أن الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان.
حين تتحدث الإنجازات، تصمت النظريات. وحين تُبنى الدول من قلب الهوية، لا على أنقاضها، فإنها لا تقف عند حدود الجغرافيا، بل تتسع لتُصبح إلهاماً لمن أراد أن يبني، لا أن يُنظّر. وإذا كانت بعض النماذج تنهار تحت وطأة التنظير، فإن التجربة الخليجية تنهض كل يوم بحقائقها.
لا تحتاج إلى شهادة أحد، لكن حين تأتي الشهادة من غير أهل الدار، فإنها تعكس قوة النموذج، وتمنحنا ما يكفي من الثقة والأدلة، لندرك أننا على الطريق الصحيح.
إنها «معجزة» صاغها أبناء هذه الأرض، وكتب فصولها من فهم أن كرامة الشعوب لا تأتي بوصفات جاهزة، بل تُصنع هنا، على الرمل، تحت الشمس، بسواعد المخلصين وحدهم.
حين تتحدث الإنجازات، تصمت النظريات. وحين تُبنى المدن من قلب الهوية، فإنها لا تقف عند حدود الجغرافيا، بل تتسع لتُصبح إلهاماً (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).