زيارة الرئيس الأمريكي إلى الإمارات .. شراكة جيوتكنولوجيةفي عصر القوة الرقمية

د. ذياب بن غانم المزروعي
شهدت دولة الإمارات العربية المتحدة زيارة رسمية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مثّلت نقطة تحول استراتيجية في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، وتُوّجت بإطلاق مشروع بالغ الأهمية، تمثل في تأسيس «المجمع الإماراتي - الأمريكي للذكاء الاصطناعي» في العاصمة أبوظبي.
وقد عُقد اللقاء بين صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب في قصر الوطن، في مشهد يعكس عمق العلاقات الدبلوماسية والسياسية والتعاون الاستراتيجي بين الدولتين. وقد جاءت هذه الشراكة في خطوة تعزز من حضور دولة الإمارات العربية المتحدة في خريطة الابتكار العالمية.

يثير هذا المشروع تساؤلاً جوهرياً: ما الذي يجعل الإمارات شريكاً استراتيجياً مفضلاً لدى الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، متقدمة بذلك على دول أخرى في المنطقة والعالم؟
الإجابة تكمن في المنظومة الشاملة التي أرستها القيادة الحكيمة لدولة الإمارات منذ سنوات طويلة، والتي تقوم على عناصر القوة الشاملة للدولة، بدءاً من الرؤية الاستباقية للقيادة السياسية.
ومروراً بالاستقرار السياسي والموقع الجيوستراتيجي المتميز، وانتهاءً بالبيئة التشريعية والتنظيمية المواتية ببناء قواعد راسخة تتيح نمو وازدهار اقتصاد المستقبل القائم على المعرفة والابتكار والذكاء الاصطناعي.

علاوة على ذلك فإن الإمارات تعد من الدول الرائدة في مجالات استخدام عناصر القوة الناعمة وسيلة لتحقيق المصالح الوطنية في إطار تعاوني سلمي.

وهذه العوامل تعززت بمقومات أخرى، أبرزها البنية التحتية الرقمية المتطورة، وسياسات الابتكار، والاستثمار في رأس المال البشري، وهي ما جعلت من الإمارات بيئة مثالية لتوطين الشراكات التكنولوجية المعقدة.

ويعد المجمع الإماراتي الأمريكي منصة متكاملة للبحث والتطوير، ويشكل حديقة علمية متخصصة تُحفّز الابتكار المحلي وتدفع به نحو الأسواق الإقليمية والعالمية، في إطار يخدم رؤية الإمارات 2071، التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.
كما وضعت القيادة الإماراتية الحكيمة ضمن أولوياتها تأسيس دولة تستند إلى المعرفة والتقدم التكنولوجي، وهو ما تجسّد في الاستراتيجية الوطنية للابتكار التي تهدف إلى جعل الإمارات من بين أكثر الدول ابتكاراً على مستوى العالم.

وقد تجلى هذا الالتزام من خلال إعلان الإمارات في عام 2017 عن إنشاء أول وزارة للذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، وتزامن ذلك مع إطلاق «استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031» التي تشكل الإطار الوطني لتوظيف الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية كافة.
كما يعمل مكتب الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بُعد على أجندة تحقيق أهداف استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي والاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الرقمي والمبادرات والخطط الهادفة إلى ترسيخ مكانة دولة الإمارات لتكون الوجهة الأولى.

والمركز الأساسي للابتكار في مجالات الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتقنيات البلوك تشين، وغيرها من التقنيات المستقبلية، بالإضافة إلى استراتيجية الثورة الصناعية الرابعة التي تهدف إلى جعل الإمارات مركزاً عالمياً للاقتصاد الرقمي.

الجدير بالذكر أن دولة الإمارات لديها مجالس متخصصة في هذا المجال، كمجلس الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، ومجلس أبحاث التكنولوجيا المتطورة، ومعهد الابتكار التكنولوجي «TII»، الذي يضم عشرة مراكز بحثية متقدمة، بالإضافة إلى امتلاكها العديد من كبرى الشركات العالمية المرموقة التي تُعنى بالتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، كشركة «EDGE».
وشركة الذكاء الاصطناعي الجديدة «AI71»، التي تُبنى على نماذج «فالكون» المطورة محلياً، وتهدف لتقديم حلول غير مسبوقة للشركات في مجال التحكم في البيانات عبر الذكاء الاصطناعي، ما يعزز الخصوصية ويخدم البيئة الرقمية.

كما أن هناك العديد من الهيئات والمؤسسات، كهيئة أبوظبي الرقمية ومؤسسة دبي للمستقبل، إضافة للمبادرات النوعية مثل «الحكومة الذكية» التي أسهمت في رفع كفاءة الأداء المؤسسي وتعزيز الشفافية، تزامناً مع تطوير بنية تحتية تكنولوجية متقدمة تشمل شبكات الجيل الخامس، ومراكز بيانات عالمية، وتقنيات الحوسبة السحابية.
وتوسعت هذه الرؤية لتشمل دعم المدن الذكية عبر مشاريع مثل «مدينة مصدر» و«دبي الذكية» وواحة دبي للسيليكون، ومناطق حرة متخصصة بالتقنية، مثل مدينة دبي للإنترنت، ومدينة الشارقة للبحوث والتكنولوجيا.

وأدركت دولة الإمارات أن التحول الرقمي لا يمكن أن يتحقق من دون قاعدة بشرية مؤهلة، فاستثمرت بكثافة في تطوير الكفاءات الوطنية، من خلال إنشاء جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وهي أول جامعة من نوعها في العالم متخصصة في الدراسات العليا في الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت مركزاً إقليمياً للبحث والتطوير وإعداد قادة المستقبل، مستفيدة من شراكات أكاديمية دولية مع مؤسسات بحثية مرموقة، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
وجامعة ستانفورد، ما أسهم في بناء قاعدة معرفية وطنية قادرة على مواكبة التحولات العالمية، وكذلك جامعة خليفة وجامعة حمدان بن محمد الذكية، إلى جانب كليات التقنية العليا ومعاهد متخصصة في التقنيات الحديثة.

وأطلقت وزارة التربية والتعليم منهجاً خاصاً لتدريب طلبة المدارس على الذكاء الاصطناعي. ومن ناحية أخرى، تم إطلاق مبادرات وطنية كبرى مثل «مليون مبرمج عربي».

ولم يقتصر التوجه الإماراتي على المستوى الداخلي، بل امتد ليشمل تعزيز الشراكات الدولية في البحث والتطوير، ما جعلها في طليعة الدول الجاهزة رقمياً وفقاً لتقارير عالمية. كما تم تنظيم معارض تكنولوجية كبرى في دبي، مثل معرض جيتكس جلوبال، ومعرض «OCTF».
إضافة إلى جلسات «متحف المستقبل» التي يشارك فيها كبار الخبراء العالميين، ما عزز من مكانة الإمارات مركزاً عالمياً للتكنولوجيا، إذ أثبتت الإمارات، من خلال هذه المشاريع والشراكات، قدرتها على صياغة نموذج اقتصادي مرن يقوم على الابتكار والتكامل، مدعوم ببنية تحتية رقمية متطورة وتشريعات مرنة، وبرز هذا النموذج في بناء المدن الذكية، وتطوير شبكات الاتصالات، وإنشاء مراكز بيانات ضخمة، وتقديم حلول رقمية شاملة.

يأتي هذا الحدث استكمالاً لمسيرة طويلة من التنسيق الاستراتيجي واللقاءات رفيعة المستوى، تعززت عبر اتفاقيات تقنية سابقة وشراكات بحثية ومؤسسية وضعت أسساً متينة لهذا المشروع الضخم والحيوي في عالم خوادم الـ«AI».
ومن هنا، أتى إطلاق المجمع الإماراتي - الأمريكي ليكون امتداداً طبيعياً لهذا المسار التنموي، ومن المتوقع أن يتمتع المجمع بقدرات تشغيلية عالية تصل إلى خمسة جيجاواط، وهذا دلالة على الكم الكبير والضخم من المعالجات الرسومية فائقة التطور القادرة على التغطية الهائلة من الطاقة التشغيلية التي تكفي لسرعة إنتاج البيانات وتوليدها.

والطاقة العالية المستخدمة في تبريدها، معتمداً على مزيج من مصادر الطاقة المتجددة، مثل الشمسية والنووية، إضافة إلى الغاز الطبيعي، وقد تقدر مساحة المجمع بـ10 أميال مربعة، ما يعكس توجهاً استراتيجياً نحو تحقيق الاستدامة البيئية جنباً إلى جنب مع التقدم التكنولوجي.

ومن المتوقع أن يسهم هذا المشروع في استقطاب شركات أمريكية واستثمارات أجنبية كبرى قادرة على الاستفادة من الإمكانات لتوفير خدمات الحوسبة الإقليمية مع إمكانية تقديم خدمات عالية التقنية والجودة لنحو نصف سكان العالم ضمن نطاق 3200 كيلومتر، وخلق وظائف متخصصة في تحليل البيانات، وتطوير البرمجيات، والهندسة التقنية، إضافة إلى دعم الصادرات الوطنية في مجال الخدمات الرقمية.

وقد أدت شركة G42 الإماراتية دوراً محورياً في تعزيز التعاون التقني مع الولايات المتحدة، من خلال تحالفات استراتيجية مع شركات أمريكية كبرى، مثل NVIDIA، لتطوير وتوطين تقنيات الحوسبة الفائقة. وقد تم تدعيم هذا التعاون باتفاقيات أمنية متقدمة توفر الحماية للتقنيات الحساسة، وتؤسس لثقة طويلة الأمد في العلاقات الثنائية.
ومن مميزات المشروع الإماراتي في هذا السياق أنه جاء منسجماً مع السياسات العامة للدولة، ومتكاملاً مع استراتيجياتها الوطنية الكبرى، ليشكل الذكاء الاصطناعي محوراً أساسياً في مسيرة التنمية البشرية والاقتصاد الرقمي.

كما أن هذا التوجه ينسجم مع المبادئ العشرة للخمسين عاماً المقبلة، التي أطلقتها القيادة الإماراتية لتكون خريطة طريق للمستقبل، ويرسّخ شراكة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، تشمل التقنية، والاقتصاد، والتعليم، والأمن.

علاوة على ذلك، عززت هذه العوامل من مكانة الإمارات كدولة تجمع بين الطموح التقني والجدية التنفيذية، ما رسّخ لدى الشركاء الدوليين صورة ثابتة عن قدرتها على تحويل الرؤى إلى واقع، خاصة مع سجلها الحافل في مشاريع الطاقة النووية والفضاء والتقنيات المتقدمة.
وفي الجانب الأمني والدفاعي، لم تغِب تقنيات الذكاء الاصطناعي عن استراتيجيات الدولة، حيث وظفتها في دعم الصناعات الأمنية والدفاعية من خلال تقنيات المحاكاة، وتحليل البيانات، وصور الأقمار الصناعية، ما يعزز من قدرة الدولة على اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة.
ورغم هذا التقدم، لم تغفل الإمارات التحديات المصاحبة، وعلى رأسها الأمن السيبراني والحاجة إلى الكفاءات الوطنية المؤهلة، فوضعت خطة معرفية شاملة تشمل الشراكات الأكاديمية، والتعليم التقني، والتدريب المهني المستمر. وفي هذا السياق، أُطلقت الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني في 2019 لتعزيز بيئة رقمية آمنة ومرنة.

وفي ظل هذه المنظومة المتكاملة، يبرز المشروع الإماراتي - الأمريكي للذكاء الاصطناعي كنموذج فريد لشراكة استراتيجية، تتجسّد فيها طموحات دولة الإمارات التي استطاعت أن توائم بين الحاضر والمستقبل، وأن تضع نفسها في قلب التحولات التكنولوجية العالمية، لتكون عاصمة للذكاء الاصطناعي، وفاعلاً رئيساً في العصر الرقمي الجديد.



شريط الأخبار