«لا تُخبري فاطمة»!

د. محمد النغيمش

أوصى الشاعر المصري الكبير عبدالرحمن الأبنودي زوجته، في وصية مكتوبة، بعدم إخبار شقيقته «فاطمة» بخبر وفاته، خوفاً من وقع الصدمة على قلبها الرقيق. يقولون إن إحساس الشاعر مرهف، لكن أن يفكر بمشاعر من حوله بعد وفاته، فهذه قمة الرأفة والحنان والإنسانية. غير أن فاطمة قد توفيت قبله، ففُجِع برحيلها!
وصية الأبنودي كتبها قبل بضعة أشهر من وفاته في أبريل 2015، وكان قد ذكر فيها طلبات دقيقة عن شؤونه ومكتبته وتفاصيل العزاء، وكأنه يرتب رحيله برقة، لا يحملها سوى شاعر.
في زمن السرعة، والردود القصيرة، والانشغال بالتعبير المتسرع عن مواقفنا، تضاءلت ردود الفعل المحسوبة. فما أن تنطلق الكلمات منا، حتى تصبح ملكاً للآخرين، يتصرفون بها كيفما شاؤوا. والكلمة كالسهم، إذا انطلقت لا تعود. وما أكثر الكلمات التي أحدثت جروحاً لا تندمل. ولذلك قيل «رُب كلمة قالت لصاحبها دعني».
ولا مراعاة لمشاعر الآخرين من دون آذان مصغية. فهناك من يصغي في إطار المجاملة، وهو في الحقيقة غير مكترث لما يتناهى إلى أسماعه. وهناك من يصغي بكل جوارحه، فيصبح بلسماً لجراح محدثه. ولا مراعاة لمشاعر مع شدة النقد والتجريح.
وقد اكتشف العلماء أنه عندما يعاني المرء ألماً عاطفياً، فإن المناطق المسؤولة عن الألم البدني في دماغه تنشط، وكأنه قد أصيب بألم جسدي. فهذا يعني أن ما نتسبب به من ألم عاطفي في وجدان الآخرين، يُحدث ألما يشبه أوجاع البدن.
الدراسة المنشورة في دورية PNAS عام 2011، كشفت أن الأشخاص الذين مروا بانفصال عاطفي غير مرغوب فيه، عُرضت عليهم صور «لشريكهم» السابق، فطالبوهم باستحضار مشاعر الرفض، فكانت المفاجأة أنه قد نشطت في أدمغتهم المناطق نفسها المسؤولة عن الشعور بالألم الجسدي. وهذا مصداقٌ للحديث النبوي: «مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

وقد لُوحظ أن الرسائل التي تبدأ بإقرار إيجابي، وتنتهي بتقدير صادق، يتولد على إثرها قبول نفسي أكبر لدى متلقيها، حتى وإن كان فحواها ملاحظات نقدية. وهو ما يسمى بأسلوب «الساندويتش» في التواصل مع الآخرين.
ويستخدم على نطاق واسع في الدورات التدريبية الإدارية. وهناك ركام من أبحاث القيادة، تؤكد أن القائد الذي يشعر بالآخرين، ويرق قلبه لهم، يُوهب حب الناس، والتفافهم حولهم، وفزعهم له عند الحاجة.

ولذلك، ينصح دوماً بالنقد المخفف على طريقة «الساندويتش» (الهامبورغر)، وهي البداية بالمديح والثناء على ما يستحق (الخبزة الصحية والسلطة الصحية)، ثم استدراك سريع بنقد لطيف وغير جارح (وهي «الهامبورغر» غير الصحية)، بعدها الختام بمديح مهذب (الخبزة السفلية)، لإيصال الرسالة بأسلوب مهذب.
كما أن كثيراً من المشاعر السلبية، تأتينا عبر الطريقة التي نوصل بها الرسالة. الأمر الذي وثقه أحد العلماء المشهورين (ألبرت مهرابيان) عبر نموذج (7 - 38 - 55).
حيث تبين أن 7 في المئة من الرسالة التي تؤثر فينا تُنقل عبر الكلمات، في حين أن 38 في المئة يؤثر فينا عبر نبرة الصوت، ونحو 55 في المئة عبر لغة الجسد. وهو ما يعني أن المشاعر تتأثر بطرق شتى، في مقدمها إيماءات الجسد، ونبرة الصوت، وبشكل أكبر بكثير من الكلمات نفسها.

الأذى اللفظي أقسى وأدوم أثراً من الجرح البدني، لأن الكلمات الجارحة تبقى غائرة في الوجدان، أما الجراح الجسدية فقد تلتئم. ولذلك قيل إن «جرح اللسان أنكى من جرح السنان». وعليه، حينما تنتابك مشاعر جارحة تجاه آخرين... لا تخبر بها أحداً.



شريط الأخبار