اليد العليا للخبر

منى خليفة الحمودي
كل جيل إعلامي يورّث الجيل الذي يليه سؤالاً مختلفاً، فالأول سأل عن السبق، والثاني عن الوسيلة، أما جيل اليوم فيسأل عن المعنى، فما قيمة أن تعرف كل شيء إن لم تفهم جوهره؟ تلك هي عتبة الإعلام المعرفي، التي تكمن في الانتقال من سرد الوقائع إلى تفسيرها.
لم تعد اليد العليا للخبر بمعناها القديم، تلك التي تسبق غيرها في النشر أو تملأ الشاشات بالعاجل، بل أصبحت اليد التي تنسج الفهم، وفي زمن تتكاثر فيه المنصات وتتشابه فيه الأصوات، يبرز السؤال الأهم: ماذا نريد من الصحافة اليوم، أن تنقل أم أن تفسّر؟
لقد تجاوزت المؤسسات الصحفية الكبرى مفهوم «الخبر» بوصفه منتجاً لحظياً، لتراه اليوم مادة خاماً لصناعة أكبر وهي صناعة الفهم التي لا تُقاس بسرعة الانتشار، بل بقدرة المحتوى على توليد وعي جديد، إنها صحافة ما بعد الحدث، التي لا تكتفي بإبلاغ الناس بما جرى، بل تساعدهم على فهم كيف ولماذا جرى.
في السنوات الأخيرة، أعادت مؤسسات إعلامية عالمية تعريف علاقتها بالزمن والمعرفة، بعد أن أدركت أن المعلومة وحدها لا تكفي، وأن الفهم صار عملة المستقبل، إذ يشير تقرير معهد رويترز لدراسة الصحافة لعام 2024 إلى أن غالبية القرّاء باتوا يفضّلون التحليلات والمقالات التفسيرية على الأخبار السريعة، في تحوّل واضح من الاستهلاك إلى الوعي.
لهذا تبنّت الصحف الكبرى مسار «إبطاء الإيقاع» لصالح العمق، فقد أطلقت صحيفة «ذا غارديان» البريطانية عام 2018 مشروعاً يقوم على تقديم صحافة تبحث في الحلول، معتبرة أن دور الإعلام هو إعادة بناء الفهم لا تكرار الوقائع.
وفي عام 2023 أطلقت «الواشنطن بوست» مبادرة «القراءات العميقة» المخصّصة للنصوص الطويلة التي تُكتب لخلق فهم مغاير حول الوقائع، أما «الفايننشيال تايمز» فقد حوّلت وحدتها المتخصصة في تحليل البيانات إلى مختبر معرفي ينتج قصصاً من عمق الأرقام، بينما حافظت صحيفة «لوموند» الفرنسية على نموذجها التحريري التأويلي الذي يفكّك الظواهر العالمية بعيون فكرية لا آنية.

وهذه التجارب لا تمثّل تحسينات مهنية فحسب، بل تحوّلاً فلسفياً في وظيفة الإعلام نفسه، من خلال صناعة الفكر داخل النص، وتحوّل القارئ من متلقٍ إلى شريك في الفهم، وبهذا المعنى تصبح المؤسسة الإعلامية بيتاً للبحث والتحليل، حيث تُدار المادة الصحفية بمنهج يشبه تفكير مراكز الدراسات القائمة على التجميع والتمحيص والتأويل، ثم إنتاج المعرفة.
فالتحول المطلوب اليوم ليس أن نكتب أكثر، بل أن نفكر بشكل أعمق، فكل محتوى لا يترك أثراً في وعي المتلقي يذوب مع مرور الساعة الأولى لنشره، أما الفكرة فتعيش لأنها تزرع سؤالاً جديداً في العقل الجمعي.
وحين تدرك المؤسسة الإعلامية أن دورها ليس ملء الفضاء بالمعلومات، بل إنارة الوعي، تتحول من ناقل للواقع إلى منتج للفهم، وهكذا فقط يمكن أن ننتقل من صناعة المحتوى إلى صناعة الفكر.

كما أن التجارب العالمية السابقة لا تصلح كوصفات جاهزة، بل كمؤشرات يمكن قراءتها في سياقنا الوطني، فالإعلام الإماراتي يمتلك اليوم مقومات التحول إلى إعلام معرفي، لأنه ينمو في بيئة تتبنّى فكر الاستشراف والابتكار.
وتعمل على بناء اقتصاد معرفي متكامل ضمن رؤية «الإمارات 2071»، ولكي يتحقق هذا التحول بوعي وطني، يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تبدأ بثلاث خطوات أساسية:

أولاً، تحويل غرف الأخبار إلى وحدات بحث وتحليل تستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات والاتجاهات بدل الاكتفاء برصدها، ثانياً، تأسيس شراكات منهجية مع الجامعات ومراكز الدراسات المحلية لربط العمل الصحفي بالإنتاج الأكاديمي والمعرفي.

وثالثاً، تدريب الصحفيين على مهارات التفكير النقدي وصياغة التفسير لا مجرد التحرير، بحيث يتحوّل الإعلامي إلى باحث في الظاهرة لا ناقل للحدث.

هذه الخطوات لا تغيّر شكل الصحافة فقط، بل تُعيد تعريف وظيفتها في خدمة الوطن، فالمعرفة التي ينتجها الإعلام ليست رفاهية فكرية، بل ركيزة في بناء الإنسان القادر على الفهم والمشاركة، وبذلك يصبح الإعلام الإماراتي جزءاً من القوة الناعمة للدولة، لا بقدر ما يُنشر من أخبار، بل بقدر ما يُصنع من وعي.



شريط الأخبار