التحقيق وتداعياته في العمل

د. محمد النغيمش

الشكوى على زميل عمل ليست كالشكوى على موظف في متجر. ففي السوق، يقدم الشاكي شكواه ويمضي في حال سبيله.

ولكن حينما يشكو موظف زميله أو مديره لمشكلة كبيرة كالتمييز أو العنف اللفظي أو البدني أو التحرش أو التنمر فإن الأمر سيتطلب لجنة تحقيق تغوص في جذور المشكلة لجمع الحقائق وحفظ حقوق الطرفين.

في السابق يشتكي المرء ولا يعلم عن شكواه سوى بعض العاملين معه، ولكن في عصرنا صارت سمعة المؤسسات الخاصة والعامة على المحك بسبب سرعة انتقال المعلومة بشكل مذهل. وفاقم ذلك تصاعد الوعي بالحقوق والواجبات.

إذن لجان التحقيق، عادة ما تشكل داخلياً، كخطوة أولى، يقودها مسؤول دائرة الموارد البشرية، وتدون أقوال الخصمين. عادة ينتهى التحقيق في يوم واحد أو يومين، لأنه كلما طال أمد التحقيق تزايدت الشكوك والإشاعات.

مشكلة بعض لجان التحقيق أنها تتأثر بالثقافة السائدة بالمؤسسة، فهناك بيئات عمل صارمة ولا تجاري أحداً أبداً، ولا يختلف اثنان على أن المخطئ سوف ينال عقابه بعدالة وشفافية.

في حين أن بعض المؤسسات تجري تحقيقاً «لطمطمة» الموضوع كما يقال أو التعتيم عليه. وهي إشارة إلى عدم الجدية في تطبيق العدالة. هذه فكرة ليست جيدة لأنها قد تدفع المتضرر إلى اللجوء إلى القضاء أو اتخاذ أساليب غير مشروعة.

كما أن هناك تداعيات أخرى عند عدم جدية تطبيق أصول إنشاء لجان التحقيق الإداري تتمثل في تدهور معنويات الموظفين، وتكبد الشركات خسائر مالية إذا ما حكم القضاء لصالح المتضرر، فضلاً عن حدوث اضطرابات في سير العمل يصعب معها تسيير أموره. فقد يؤدي غياب العدالة إلى إذكاء روح الانتقام والكراهية بين العاملين.

أما بخصوص الأعراف والإجراءات المتبعة في التحقيق، فإنها تتضمن ضرورة حماية «المُبَلغ» الشاكي، فكم من مبلغ ناله انتقام فوري من مديره أو الإدارة العليا.

فهناك من ينظر للشكوى باعتبارها «اعتداء» أو «تجرؤ» غير مقبول. ولذلك يدفع الشاكي ثمن «عقلية البعير» الذي لن يتراجع عن الانتقام ممن أساء إليه ولو بعد حين.

قد يفكر المرء مرة واحدة قبل أن يتقدم بشكوى ضد خدمة أو منتج لكنه يجب أن يفكر مئة مرة قبل الإقدام على تقديم شكوى في العمل، لاسيما إذا كانت موجهة لمديره.

كثير من حديثي العهد في بيئات العمل يتحمسون ويشتكون، وينسون أنهم بذلك قد قطعوا «حبل الود» بينهم وبين مديرهم المباشر على أمر قد يتضح لهم لاحقاً مدى تفاهته.

وهذا لا يعني عدم الشكوى ولكن ينبغي تذكر أن العودة للعمل مع المدير نفسه قد تصبح صعبة وربما مستحيلة. ففي كثيرٍ من الأحيان، يُحوَّل الموظفُ إلى قسمٍ آخر، حمايةً له كمُبلّغٍ عن مشكلة.

هذه المسألة ليست كافية فقد يُصبح هذا المدير مسؤولاً مباشراً في مرحلة لاحقة. وإذا ما كان المسؤول يتحلى بالمهنية فلا خوف منه ولكنه إن افتقر إلى السلوك المهني يصعب الوثوق بإنصافه فقد يشخصن الأمور ويعوق تقدمه.

في البلدان الغربية وبيئات العمل الصارمة يكاد يصعب أن يحدث ذلك فهو يعلم أن أعين الموارد البشرية واللوائح سوف تكون له بالمرصاد. لكنه أمر قد لا تجده في بيئات أخرى يستحوذ على قراراتها مجموعة ضيقة من المسؤولين.

الشكوى تعني إجراء تحقيق، والتحقيق يتطلب جمع حقائق. وكثير ممن دخلوا في معمعة التحقيق «العادل» تبين أنهم مخطئون في المشكلة نفسها أو ارتكبوا أخطاء أخرى ليست ذات صلة، لكنها وجّهت إلى أصابع الاتهام والتقصير.

للتحقيق الإداري أصول وقواعد ونظم تحكمه. وفي الوقت نفسه قد تضرب الإدارة العليا ذلك كله بعرض الحائط إن أرادت الانتقام من أحد أو وأد شكواه. كما لابد من التدرج الشفهي في الشكوى قبل الإقدام على الكتابة، فكثير من المشاكل حُلّت ودياً.



شريط الأخبار