منعرج اللوى!

عوض بن حاسوم الدرمكي

عندما تولى قسطنطين الكبير العرش الروماني سنة 306م، كانت الإمبراطورية تمور بالانقسامات موراً، وتمزقها الحروب الأهلية في جوانبها الثلاثة: الأوروبية، والآسيوية، والأفريقية، مع فوضى سياسية بوجود النظام التيتراركي الذي كان يشرع وجود أربعة أباطرة في الوقت نفسه، وأزمة اقتصادية حادة، وهجمات مستمرة للقبائل البربرية، وانقسام مجتمعي كبير يغذيه تنوع المعتقدات بين وثنية وشرقية ويهودية، وبدا أن انهيار الإمبراطورية ليس ببعيد، فماذا فعل؟

كان أول ما صنع هو إنهاء عبثية نظام الحكم الرباعي، وانتصر في معركة جسر ميلفيان عام 312م ضد منافسه ماكسنتيوس، فسيطر على أراضيه بإيطاليا وشمال أفريقيا، ثم هزم خصمه الآخر ليسينيوس في معركة كريسبوليس سنة 324م، ليصبح الإمبراطور الأوحد، وتنتهي بذلك الحروب الأهلية، ثم أسس جيشاً متحركاً comitatenses من 100,000 جندي، وجيشاً آخر بعدد مقارب مرابطاً على حدود الإمبراطورية (limitanei)، ما رفع القدرة على سرعة صد التهديدات الأمنية.

ثم عاد لإصلاح الاقتصاد المتهالك، فأدخل عملة ذهبية جديدة أسماها سوليدوس Solidus لمعالجة التضخم الحاد الناجم عن انخفاض قيمة العملة القديمة، وأصبحت معياراً عالمياً لقرون طويلة، وقام بتعديل سياسة الضرائب لتكون أكثر عدالة وأقل شراسة على التجار والفلاحين وأصحاب الحرف، ولكن رغم كل ذلك، شعر قسطنطين بأن الإمبراطورية تفتقد النسيج المجتمعي المتماسك، وأن الوضع الحالي المتباين لن تنفع معه الإصلاحات السياسية والعسكرية والاقتصادية، فالروح لها تعامل مختلف، ومجتمع من دون روح لن يستمر طويلاً، وهو أمر فطن له بدهائه!

بعد هزيمته جيش ماكسنتيوس عام 312م بسنة كاملة، ادعى أنه رأى صليباً من نور في السماء وصوتاً يناديه «بهذا تنتصر!»، ومن حينها أصبح الصليب الرمز الروحي للإمبراطورية وتم رفع الاضطهاد عن المسيحيين، وقام بتقديم المسيحية ديناً سماوياً للإمبراطورية بشكل متدرج، وفتح الخزائن لأمه هيلينا لتقوم بزيارة الأراضي المقدسة، وتبني كنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وكنيسة جبل الزيتون، وتدّعي عثورها بعد أربعة قرون على الصليب الخشبي الذي يدّعون أن المسيح صُلب عليه، وكان لجهود هيلينا دور بارز في إيجاد (مَحَج) مسيحي رسمي، وفوق ذلك ألزم قسطنطين الكنائس المختلفة بالاتفاق على عقيدة واحدة لتوحيد الأمة فكرياً وروحياً من خلال (مجمع نيقية) عام 325م، ودعم المطارنة مالياً، ما جعل الكنيسة تسير في ركاب القرار السياسي غير معارضة له!

نجح قسطنطين في إعادة تشكيل وتعزيز الهوية للإمبراطورية الرومانية، ما سمح لها بالحياة لقرابة ألف سنة، وقدم نفسه خادماً لله وإمبراطورَ مختاراً لقيادة الأمة، وأصبح المواطن الروماني باعتناقه المسيحية «المتفق عليها» في نيقية، يرى نفسه عضواً في «مملكة الرب» الأبدية، وليس مجرد تابع لإمبراطورية دنيوية متهالكة!

ربما تكون هذه أطول مقدمة لمقال أكتبه، لكن كان من الواجب توضيح الفكرة جيداً، فكل شيء يتآكل مع الوقت، وحياة الرخاء تُفقِد المجتمعات الكثير من الخصال التي كانت سبباً في قوتها وتفوقها، ومن يظن أن النجاح دائم من دون تعب، فليراجع قصص مئات الدول والإمبراطوريات البائدة، لكن حتى هذا التعب لا بد من ألّا يغالط المسلّمات، ولا يُدير ظهره للسبب الجوهري لبقاء أي مجتمع وتماسك نسيجه الداخلي.

كل شيء يذهب بالإمكان تعويضه أو استعادته بالتخطيط الجيد والذي يراعي اختلاف الظروف والبيئات والعقليات، ولكن الدين إن تم تحييده أو عدم إعطائه ما يستحق من اهتمام، فإن مرجعية الأمة تضيع، ولن تنفع حينها أي بدائل أخرى مهما تم تلميعها، فلا يمكن الاكتفاء بحزمة صفات أو منظومة أخلاقية مستقلة بذاتها، لأنها سوف «تميع» بمرور الوقت وبظهور ضغوطات من هنا وهناك، وقد رأينا كيف ضاعت الأخلاق «في الطوشة» في العالم في السنوات الأخيرة بصعود الليبرالية وما جرّته من عفن أخلاقي وانحطاط قيمي غير مسبوق، وذلك لأن تلك الأخلاقيات المزعومة كانت تُستمد من «المزاج» العام لقوى الضغط وأجنداتها المشبوهة.

لن يستقر مجتمع لا يضع في المقام الأول دينه الذي يشكل ركيزة هويته والذي تستند إليه منظومته الخلقية وأعرافه وسلوكياته وتعاملاته، وإن أي تهاون في هذا الأمر سينتج عنه نشوء أجيال لا مرجعية لها، وبالتالي لا يُتنبّأ بتوجهاتها اللاحقة، ولنا في العالم الغربي وما يتأجج به حالياً الدرس الأبلغ، وما حال الناصح الـمحب لمجتمعه وأهله في وطننا العربي إلا كما قال دُريد بن الصمة ذات يوم:

بَذَلْتُ لَهُم نُصْحِي بمُنْعَرج اللّوى
فلم يستبينوا النُصْحَ إلا ضُحى الغَدِ



شريط الأخبار