التمسك بخيار الحرب ليس بطولة

علي عبيد الهاملي


الذين يتمسكون بخيار الحرب، يبدون وكأنهم يتمسكون بوهم أكثر مما يتمسكون بواقع. فحين يصر الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، على المضي في مسار الحرب في السودان، رافضاً اقتراح الرباعية بوقف إطلاق النار، فإنه لا يدافع عن وطن بقدر ما يغامر بما تبقى من هذا الوطن المنهك.
فالحرب، مهما بدت للبعض طريقاً إلى النصر، تظل طريقاً معبدة بالدماء، لا يصل سالكها إلى المجد، بل إلى الخراب، ولا تبني دولة، بل تهدم ما تبقى منها.

ليس في الحرب شجاعة حين تنعدم الرؤية، ولا بطولة حين يغيب الضمير، ولا وطنية حين يكون الثمن هو الوطن نفسه. فأن تتمسك بالقتال في لحظة ينادي فيها العقلاء بالسلام، يعني أنك تضع سلاحك في وجه المستقبل لا في وجه العدو. ويعني أيضاً أنك لم تفهم بعد أن الدولة لا تصان بالبندقية، بل تبنى بالعقل والحكمة والمسؤولية.
الذين يصرون على استمرار القتال، يتجاهلون أن السودان لم يعد يحتمل مزيداً من الجراح. الخرطوم التي كانت يوماً عاصمة للحياة، تحولت إلى أطلال تتقاسمها النيران.
المدن التي كانت تضج بالفرح، صار صداها أنيناً. آلاف القتلى والمصابين والنازحين لا يرون في استمرار الحرب إلا عبثاً جديداً يضاف إلى قائمة المآسي التي لم تنتهِ بعد. فهل يمكن أن يكون التمسك بالحرب بطولة في وجه هذا الألم الجماعي؟ أم هو إصرار على إنكار الحقيقة؟

الحقيقة التي يرفض كثيرون الاعتراف بها هي أن الحرب، مهما طالت، لن تنتج منتصراً واحداً. في النهاية، سيخرج الجميع خاسرين. إن من يعتقد أن النصر العسكري كفيل بإعادة هيبة الدولة، عليه أن يتذكر أن الهيبة لا تستعاد بالرصاص، بل بالعدالة، وأن السلطة التي تبنى على أنقاض المدن ليست سلطة، بل لعنة.
يريد ياسر العطا أن يقول إن التفاوض ضعف، وإن الهدنة تنازل، وإن الحرب وحدها تعيد الكرامة. لكنه ينسى أن التفاوض شجاعة من نوع آخر، تحتاج إلى عقل يزن العواقب، لا إلى يدٍ تضغط على الزناد.
وأن الهدنة ليست تنازلاً، بل التزاماً أخلاقياً تجاه أمة تنزف. أما الكرامة، فلا تصان بقتل الأبرياء وتشريد الأطفال، بل بحماية حقهم في حياة كريمة وأمان مفقود.

حين يرفض ياسر العطا مبادرات المجتمع الدولي، فهو لا يرسل رسالة قوة كما يتوهم، بل يرسل إشارة ضعف إلى الداخل والخارج معاً. لأن القائد الحقيقي لا يختبئ وراء هدير المدافع، بل يواجه العالم بالعقل والحكمة.
ولأن العالم اليوم لم يعد يرحم من يصر على أن يكون جزءاً من المشكلة بدل أن يكون جزءاً من الحل. المأساة الكبرى في الموقف الذي يتبناه العطا ليست في تمسكه بالقتال، بل في فقدانه الإحساس بالزمن. فكل يوم جديد من هذه الحرب يزرع أحقاداً لن تموت بسهولة، ويؤجل بناء الثقة لعقود. الحرب لا تصنع رجال دولة، بل تصنع قادة حرب لا يعرفون كيف يعيشون في سلام.

قد يفهم الناس أن القائد العسكري يفكر بمنطق الميدان، لكن لا يغفر له أن يقصي صوت العقل. فالميدان الذي لا يسمع أنين الشعب ليس ميدان شرف، بل ميدان جريمة.
والجيش الذي يقاتل بلا أفق سياسي يتحول من حامٍ للوطن إلى عبء عليه. والسودان الذي كان يوماً سلة غذاء أفريقيا، صار اليوم ساحة مفتوحة للجوع والنزوح والدمار، لأن قادته اختاروا لغة الحرب على لغة الحوار.

إن الذين يتمسكون بخيار الحرب، لا يدافعون عن كرامة الوطن كما يدعون، بل يهربون من مسؤولية بنائه. لأن بناء الوطن أصعب من خوض الحرب، وإعادة الثقة أصعب من إطلاق النار. وما أحوج السودان اليوم إلى قادة يسمعون صوت الناس قبل صوت السلاح، ويؤمنون أن العظمة في إنقاذ وطن، لا في كسب معركة.
التاريخ لا يخلد من انتصر في الحرب، بقدر ما يخلد من أوقفها. والبطولة الحقيقية ليست في إسقاط الخصم، بل في إنقاذ الشعب من الغرق. وإذا كان ياسر العطا يتمسك بخيار القتال، فإن الشعب السوداني هو الذي يدفع الفاتورة. فاتورة الدم والدمار والتشريد، التي ستظل تطارده مهما تغيرت الوجوه، لأن الذين رفضوا السلام هم الذين أضاعوا الوطن.



شريط الأخبار