ترامب الآخر

محمد خالد الأزعر

في معالجته لقضايا حيوية ذات تأثيرات استراتيجية بعيدة الغور، أظهر الرئيس الأمريكي ترامب قدراً من العقلانية والرشد، بما يخالف السمات والأوصاف السلبية، التي أفاض الكثيرون من قادة الرأي وعلماء النفس الاجتماعي والسياسي وفقهاء العلاقات الدولية، بل وبعض قراء لغة الجسد، في إضفائها على شخصيته.
كان مما قاله هؤلاء، أن ترامب نرجسي النزعة والهوى، يعشق ذاته ويرى نفسه إنساناً مثالياً، يعرف كل شيء ومنتصر دائماً ولا يفشل.. وأنه يميل للاندفاع والتهور في اتخاذ القرارات الخارجية، بناء على انطباعات ذاتية خاطئة..
وأنه ينزع إلى استخدام أوراق القوة إلى حدود ابتزاز الخصوم والأصدقاء والحلفاء.. وأنه لا يبالي بصناعة الأزمات ويدعي إمكانية إدارتها وتفكيكها متى أراد..

وأنه، علاوة على ذلك كله، لا يعبأ بالرأي العام ولا بالعمل المؤسساتي، بما من شأنه تجاوز واحد من أقانيم النظم الديمقراطية بعامة، وليس فقط النظام الأمريكي؛ هو المبدأ الذي يتعلق إلى حد القداسة بالفصل بين السلطات.

هذه المعالم والمواصفات، التي تعرض بمجملها صورة لإنسان غير سوي، لا يؤتمن على دور أو مقعد القيادة في أي من مجالات المسؤولية، تبدو مثيرة للاستهجان، كونها تخص زعيم الدولة الأقوى عالمياً؛ المنوط به وبها التعامل مع ما يعز حصره من القضايا بالغة التعقيد، داخلياً وخارجياً؟!.
وتزداد الدهشة، حين نتذكر أن المجتمع الأمريكي منح ثقته الانتخابية لهذا الزعيم، بمواصفاته السلبية جدلاً، لدورتين رئاسيتين غير متتاليتين..

بمعنى أنه كان على علم مسبق بطبائع الرجل، فهل نفهم من ذلك أن هذا المجتمع أصيب بغالبيته بحالة جماعية من انحراف البوصلة، إلى درجة أفقدته صحة الاختيار؟!. هذا تقدير يصعب قبوله.

الأقرب للمنطق أن ترامب، والترامبية، نتاج لتحولات وتغيرات، تتفاعل وتعتمل في أحشاء هذا المجتمع.. تحولات تحتاج إلى تدبر معمق. إن حدث ذلك، فقد نكتشف موضوعياً أن الرئيس الأمريكي.
في بعض من أهم سلوكياته وقراراته المعطوفة على المصالح الأمريكية العليا، ليس بالسوء المبالغ فيه المنسوب إليه، بل وربما كان أبعد نظراً وحصافة، قياساً حتى بالبنى المؤسسية والاستشارية المحيطة به!

هو، مثلاً، استبعد منذ بداية ولايته الثانية، وما زال، فكرة تزويد الأوكرانيين بصواريخ توماهوك المجنحة، التي تمكنهم بمدياتها (ما بين 1600 إلى 2600 كم) من إصابة أهداف استراتيجية في عمق الأرض الروسية. وكانت ذريعته في البداية «عدم التخلي عن أشياء نحتاجها لحماية بلدنا»..
فلما أكدت مصادره الاستخبارية والعسكرية، بما فيها وزارة الدفاع (البنتاجون)، وجود مخزون من هذه الصواريخ يفيض عن حاجة البلاد الدفاعية، باح بالسبب الحقيقي لموقفه، وهو أن خطوة كهذه سيترتب عليها تبعات خطيرة عسكرياً وسياسياً على العلاقات مع روسيا.

كأن ترامب، بقراره هذا، قدم نموذجاً لتجاوز العمل المؤسساتي، باعتباره أعرض عن موافقة صقور البنتاجون ومجمعات الصناعات العسكرية وطرحها جانباً.. لكنه وضع عينه على ما يمنع استدراج دولته لاستفزاز الجانب الروسي والوصول معه إلى «حافة الهاوية».
ومن حيثيات هذا القرار، ندرك أن ترامب، الرجل المعتز كثيراً بنفسه وحكمته، أعطى أذناً واعية لمهاتفة أجراها معه الرئيس الروسي بوتين وتضمنت «تحذيراً جدياً من أن الصواريخ بعيدة المدى، لن تغير الوضع في ميدان الحرب، لكنها ستضر بالعلاقات مع واشنطن بشكل جوهري».

نحن هنا بصدد تصرف رأس دولة عظمى، معني بمراعاة محددات وتوازنات القوة الصلبة الضابطة، بلا استخفاف، للعلاقة مع المزاحم الأول على قمة النظام الدولي، ثم إن هذا التصرف، ينسجم تماماً مع قناعة، ما انفك ترامب يرددها على الملأ، مفادها أن أوكرانيا ربما لن تنتصر في الحرب.
وأنها قد تحصل بالمفاوضة على ما لا يمكنها بلوغه بالقتال. وعليه، فإنه لا فائدة حقيقية ترتجى من وراء تعلية تسليح كييف، سوى تسخين العلاقة مع موسكو إلى درجة لا تحمد عواقبها داخل الميدان الأوكراني وخارجه.

بخلاف التزام ترامب بكبح جماح التغلغل في الأزمة الأوكرانية، ومقاربة أطرافها بحسابات تتنافى مع العشوائية والمزاجية، هناك أمثلة أخرى على قدراته في «التفاوض والمناورة»، والصعود والهبوط بسقوف الأهداف، على وقع المصالح الأمريكية، مع منافسين واعدين على صعيد المكانة العالمية، اقتصادياً بالذات، كالصين والهند..
وذلك بما يكاد يجعلهم في حالة حيرة وارتباك حول كيفية التعاطي معه. وفي السياق الخارجي، قد يصح الاعتقاد بأنه تمكن، بشفاعة مداخلاته غير التقليدية، من تغيير معادلات ومشاهد شرق أوسطية كثيرة لصالح بلاده.. تاركاً لمعظم الأطراف المعنية الأخرى أدواراً ثانوية.. وهذا أمر شرحه يطول.



شريط الأخبار